الجسد أفقا للتفكير “الجسد المدنس مدخلا لقراءة براديغم الصراع الاجتماعي” بقلم ياسين ميمي
[author title=”نبذة عن الكاتب” image=”https://www.philoclub.net/wp-content/uploads/2020/04/الجسد-أفقا-للتفكير-ياسين-ميمي-الجسد-المدنس-مدخلا-لقراءة-براديغم-الصراع-الاجتماعي.png”]ياسين ميمي، طالب باحث،تخصص: علم الاجتماع و الأنثربولوجيا..[/author]
توطئة عامة:
الجسد ناظم مركزي لعلاقة الإنسان بالعالم. لا تستقيم مناقشة تيمة الذات الإنسانية ، دون استحضار لكافة روافدها القاعدية المؤسسة ،التي إلى جانب العقل و الوعي التصوري ،ثم الاحساس و الانفعال العاطفي ،يأتي الشعور الحسّي أو الحواسّي ،الذي يتركز في الجسد أساسا ،باعتباره الحضور المادي للإنسان، الذي يخترق به الزمان و المكان، و الامتداد الفيزيقي الذي يبصم به وجوده في أثير هذا الكون الشاسع ،فهو بذلك تأكيد للهوية البشرية و مؤسس لوعيها بذاتها و بالآخر ،و لعله أصبح في عصورنا الحديثة واحدا من مكونات الهوية الأكثر جوهرية و عمقا دلاليا، و أحد أهم ركائز الأنا ، فرغم ما وصفت به الفلسفة اليونانية القديمة ( سقراط و أفلاطون ..) و كذا الفلسفة الأوروبية الوسيطة ( ديكارت ..) الجسد ،بما هو سجن للروح و حجب لها ،أو خداع للعقل و توهيم له ،مؤسسين بذلك لوضعية دونية لهذا الجسد المهمش، مقابل جوهرية العقل و أصالة الروح.
نجد على الطرف النقيض من ذلك، مفكرين حداثيين يعلون من شأنه و يعيدون لهذا الجسد قيمته الاعتبارية ،من أمثال الفيلسوف ( فريدريك نيتشه و موريس ميرلوبونتي و سبينوزا و جان بول سارتر ..) الذين يخرجون هذا الجثمان من قبر الكوجيطو الديكاتري ،باعثين فيه الروح من جديد ،باعتبار أن أجسادنا ليست مستقلة عنا، بل هي وسائلنا التي نعبر بها عن أنفسنا بشكل طبيعي، كما أنها أداتنا الوحيدة لإدراك العالم من حولنا ،و وساطتنا الفاعلة في التواصل مع الغير و تماسنا بالموجودات من حولنا.
كيف يمكن أن نستوعب الفرد بدون تجسيده، في الوقت الذي تقفز فيه عادة العلوم الاجتماعية عن معطيات الجسد و تلفها بالصمت، وتعتبره خاطئة، من صميم البداهات الأولية، حاجبة بالتالي لبيانات تستحق الكثير من الاهتمام. إذا كانت السوسيولوجيا (علم الاجتماع) تهتم بالعلاقات الاجتماعية، والفعل المتبادل بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين، و على رأسهم علاقة (رجل/امرأة)، فإن الجسد دائما حاضر هنا. في قلب كل التجارب الإنسانية.
ولعل القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي سيحتل فيه الجسد في الدراسات الإنسانية الاهتمام الذي يستحقه، وذلك بعد إدراك المدارس الفكرية المختلفة لمدى مركزيته و عمق تغييبه في العصور الماضية، ولعل ظهور جمعيات حقوق الإنسان، واهتمام المنظمات الدولية بأمره، يبرهن على مدى ما حظي به الجسد الإنساني من رد للاعتبار، خاصة في ظل ممارسات الحداثة الغربية أخيرا، والتي أحالته إلى كم مهمل أو ركام تسويقي، في إطار فوضى الإيديولوجيا الرأسمالية و ما أنتجته من قيم برغماتية و أداتية في التعامل مع الأجساد.
من هنا أصبح الاعتماد على الجسد، هو عبارة عن إعادة الحلقة المفقودة التي تعيد الوصل بين الذات والفرد الفاعل، بين الشخصية (المحمول المعنوي) و الجسد (الحامل الفيزيقي) للذات الإنسانية. و التي شكلت التفرقة و الفصل بينهما، أو تثمين جانب على حساب تبخيس الآخر، لب الأزمة ومرض الحضارة الحديثة.
بالتالي كان الاهتمام الشديد بالجسد الإنساني، ما هو إلا تعبير عن اهتمام الفينومنولوجيا بتلك الحياة الواقعية التي نحياها في العالم من خلال أجسادنا، ومن خلال تلك العلاقة بين خبرات أجسادنا وخبرات الأجساد الأخرى.
الموضوع:
يقول عالم الاجتماع الفرنسي “دافيد لوبروتون – David le Breton” في تقديمه للنسخة العربية، التي اضطلع بترجمتها الباحث الاجتماعي المغربي “عياد أبلال” و الباحث “إدريس المحمدي”، في كتابه الفريد “سوسيولوجيا الجسد” “La Sociologie du corps”:
“إن الشرط الإنساني جسدي، حيث الجسد مادة الهوية على المستوى الفردي والجماعي، والفضاء الذي يمنح نفسه للنظر والقراءة وتقدير الآخرين. فبفضله نحن معينون، معترف بنا، ومحددون بانتماء اجتماعي، بجنس، بسن، بلون الجلد، وبخصلة فريدة في الإغراء. يرافق الجلد الجسد، ويقيم حدود الذات بين الخارج والداخل بشكل حي، إنه مسامي لأنه منفتح على العالم، وذاكرة حية. لأنه يلف ويجسد الشخص من خلال تمييزه عن الآخرين، ويربطه بهم، حسب العلامات المستعملة”.[1]
ثم يسترسل بالقول: “إن الجسد هو التوتر الهوياتي للإنسان، للمكان والزمن، حيث العالم يتخذ جسمًا للفكر جسدانية مثلما للجسد ذكاء، فمن تقنيات الجسد إلى التعبيرات الوجدانية، من الإدراكات الحسية إلى التسجيلات الغلافية، من سلوكات الوقاية إلى سلوكات التغذية، من طرائق الجلوس إلى المائدة إلى طرائق النوم، من نماذج تمثل الذات إلى العناية بالصحة والمرض، من العنصرية إلى التمركز، من الوشم إلى الثقب، يعدّ الجسد مادة لا تنضب للممارسات الاجتماعية، للتمثلات، للمتخيلات. إذ من المستحيل الحديث عن الإنسان من دون أن نفترض بشكل أو بآخر بأن الأمر يتعلق بإنسان من لحم، معجون ومشكل من حساسية خاصة. إن الجسد (أداة عامة لفهم العالم). على حد قول ميرلوبونتي”[2].
مستلهمين هاتين الفقرتين، نواصل مطارحتنا حول مسألة الجسد ،باعتباره معطا اجتماعيا و بدنا ثقافيا ،أو ظاهرة جسدية و مجسدنة، كما يسميها بعض الباحثين، التي سوف لن تكون ممكنة دون استحضار رزمانة من الطروحات الهامة، ذات السبق المعرفي ،التي تناولت الموضوع بالدرس و التحليل ،و قبل أن ندلف لبحث الإشكالية لا بأس من التذكير ،من باب الاحتراز المنهجي الإبستيمي ، بأننا في هذا المقال ،لا ندرس الجسم و إنما الجسد ،بما يحيل عليه مسمى جسم من إشارات بيولوجية فيزيولوجية بالأساس متعلقة بالتشريح الطبي، و ما يؤشر عليه مفهوم الجسد، من بنى ثقافية و اجتماعية في العمق. فنجد من تناوله من منظور الجنوسة أو الجنوسية أو الجنسانية المعبرة أساسا عن الأفكار والتصورات الاجتماعية لمعنى الرجولة و الأنوثة ،التي تنشط تحت مسمى الجندر، هذا عكس مصطلح الجنس الذي يحيل على الجنس البيولوجي التشريحي للنوع الاجتماعي. و هناك دراسات أخرى تطرقت لهذا الجسد كمعطى أنثربولوجي ثقافي ،يفصح عن ممارسات و طقوس تعبدية أو احتفالية أو سحرية، تظهر في وشومه و نقوشه المختلفة ،و نجد في هذا السياق الدراسات الأنثربولوجية لكل من (مالينوفسكي، مارغريت ميد، ليفي شتراوس ..). كما تم تناول الجسد كمعطى سياسي، يكشف عن توترات سوسيو-سياسية معينة، ترتبط بالتراتبات الاجتماعية و علاقات الهيمنة و التبعية و الصراعات الطبقية المحتدمة داخل المجتمع ،و من أهم من اشتغلوا في هذا المبحث نذكر (ميشيل فوكو ..). كما نجده أيضا عند آخرين كموضوع فلسفة جمالية (إستطيقا مورفولوجية). كما اعتبر عند آخرين منجما للذة الشبقية أو كوعاء لتفريغ الرغبة الإروسية الجنسية و ما يحفها من استيهامات و فونتازمات و خيالات اجتماعية كفيلسوف اللذة الإيروسية (جورج باطاي). إلى غير ذلك من المداخل و المتون التحليلية المتنوعة و المتعددة ،لقراءة خطاب الجسد و تهجئة لغته و ترجمة أبجدياته ،كما يتحدث رولان بارت عن ذلك.
فكيف نستقرئ جغرافيا هذا الجسد و نستنطق مغاليقه ؟ و ما هي الدوائر الاجتماعية المساهمة في تصنيع و تشكيل ملامحه الثقافية و المورفولوجية ؟ و أنّا لنا مساءلة تفاصيله الدالة و قراءة تعابيره السيميولوجية ؟ و أخيرا ،ما شروط إنتاج و إعادة إنتاج هذا الجسد، بما هو معطى اجتماعي و ثقافي و سياسي و اقتصادي كذلك، مطابق أحيانا و مفارق أحايين أخرى ؟
الإستشكال:
تعدّ الجسدانية كظاهرة، من الموضوعات التي تتحدى إمكان فهمنا لها، وتقول لنا بقوة غير مسبوقة إن التجربة لا توجد أبدًا جاهزة، وأن أي علاقة بالجسد هي نتاج بناء اجتماعي، و بناء ثقافي و بناء رمزي، إنها أيضًا بالنسبة إلى الباحث ثمرة نظر صارم وبحث يتطلب مهارات فكرية استثنائية و كفايات منهجية جد خاصة.
بداية سوف أقوم بأخذ القارئ في جولة استكشافية سردية صغيرة ،عبارة عن عودة حميمية لأحد أيام الماضي القريب ،التي لا تزال أحداثها محفورة في ذاكرتي و وقعها بالغ الأثر على نفسي لحدود اليوم .. و سوف ألتمس من القارئ الكريم منحي بعض الصبر و التؤدة كرما منه ،لأبرز علاقة الحادثة الشخصية مع موضوع المقال ،لأنها في واقع الأمر، كانت بمثابة سؤال القطر أو مشكلة الانطلاق، التي أفاضت محبرتي ،و الشرارة الأولى لانطلاق سلسلة متواترة من التساؤلات و الاستفهامات، حول إشكالية هذا الجسد اللغز ،سوف لن أطيل عليكم كثيرا ،لأمرّ مباشرة لسرد القصة !
ذات مساء شتائي ،قصدت حمام الحي الشعبي القريب من منزلنا ،و قد كنت أتردد عليه للاغتسال أيام الإثنين أو الخميس غالبا ،لألا أصادف الاكتظاظ و الزحام ،فكنت أقابل بضع رجال مسنين لا أمانع وجودهم و مساعدتهم أحيانا في جلب المياه أو حكّ ظهورهم بالخرقة .. حتى ذلك اليوم ،، الذي صادفته فيه …
إنه رجل خمسيني (كهل) رغم أن مظهره يوحي بأنه أكبر من ذلك، أسمر لون البشرة ،محدودب الظهر ،غائر العينين ،ناتئ عظام الوجنتين ،أوعية و عروق رأسه الأصلع تكاد تنفجر من شدة بروزها ،غضاريف مفاصله مكورة للخارج، أوتار سيقانه مشدودة و عضلاته مقبوضة – كعلبة بلاستيك أحكم إغلاقها بمائة قفل فولاذي -،جلده من شدة هزاله التصق بأضلاعه، فصار كآلة كَمَان جهير نال منها الاهتراء ،أو ذلك المسمى بـ ” لو فيولونسيل ” le violaoncelle ” بالفرنسية ،أي تلك الآلة الوترية الكبيرة من عائلة الكمان، .. بشكل عام بدا لي لوهلة ،أنه يتهيأ لطقوس الغسل لا سامح الله ،إذ لم يتبقى منه كإنسان ظاهريا ،غير الوعاء الخارجي، الجمجمة الملساء و الغضاريف المتكتلة و الأضلاع الناشزة من الجلد و العروق البارزة من معظم أطراف جسده .. قل ((آلة بشرية)) أو ((جثة مؤجلة الدفن)) و كفى !
منذ دخوله الحمام ، ظل يتأوه بين الفينة و الأخرى ،و يخرج تلك الزفرات العميقة ،بعد أن ناداني ملوحا بخرقته و قائلا باقتضاب : ” .. الله إرحم والديك ” ،حيث تأكد من فهمي للرسالة بعد أن أومأت له برأسي كناية على الموافقة، حيث قمت بتقديم يد العون بالتكلف بحك ظهره ،فكانت فرصة للاقتراب من تلك الآلة البشرية المتهالكة ،من ذلك الجسد المنهك ،لتعميق النظر في ثناياه و منعرجاته الحادة ،فكان أن لاحظت بضع كدمات في يديه و تورمات بأقدامه ،كما انتبهت كيف انزاحت بعض فقرات ظهره البارزة عن خطها الطبيعي ،ففي العادة يتخذ شكل العمود الفقري شكل الحرف S في الفرنسية ،لكنه عند الرجل يتخذ شكل C ،من حدة الاعوجاج ،كما لاحظت بأن أصابع يديه قد التفت مفاصلها على غير المعتاد ،كما أنها امتلأت بالكدمات و آثار الجراح المندملة ،و نفس الشيء في الأقدام ،حيث يظهر التورم عليها و الانتفاخ في بعض المواضع ،كما أنه أشار لي بموضع يؤلمه أسفل ظهره ،حتى آخذ حذري فلا أفرط بالضغط في الموضع ..
عموما، المشهد برمته و كأنني أشاهد فيلما سينمائيا من أفلام الرعب أو الدراما المأساوية ،أو أطالع لوحة الفنان ” بابلو بيكاسو ” التكعيبية الشهيرة ،المسماة ب” غرنيكا ” Guernica ” التي استوحاها من أحداث قصف بلدة غرنيكا الإسبانية، من طرف طائرات حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان ،حيث قصفت المدينة في 26 أبريل 1937 خلال الحرب الأهلية الإسبانية. تلك اللوحة التي تجسد حجم التشوه الذي يطال الحياة و الحضارة بفعل الحروب ، و حجم الدمار الذي تخلفه. فاعتبرت اللوحة منذ ذلك الحين، أقرب متحدث باسم المأساة و المعاناة الإنسانية.
بعد أن حاولت ،استذكار كافة المعالم الدالة في الوضعية ،التي أثارت انتباهي بشكل لافت ،يمكن القول أننا أتممنا مهمة الملاحظ الذي يحاول ،في تعامله مع أي ظاهرة إجتماعية إنسانية ،الارتكان لبراديغم الوصف المكثف للظاهرة كما أوصى الأنثروبولوجي الأمريكي “كلود ليفي ستراوس” بذلك ،عبر استجماع عناصر الإجابة المحتملة، أو ما سيشكل بالنسبة لنا، مادة التحليل السوسيولوجي-الإثنولوجي-الأنثربولوجي الممكنة ،لتسليط الضوء على تفاصيله المعبرة ،و تشريح الحالة فوق منضدة المختبر السوسيولوجي .. غير أن عينة بحثنا هنا: حالة واحدة استثنائية، افترضنا جدلا أنها استحقت تمثيلية مئات بل ملايين المققهورين البؤساء و استوفت شروط التحدث بلسانهم. و حقل البحث: مسطح أو منحوثة جسده الفريدة و الزاخرة بالطلاسم و الدلالات و الرسائل المشفرة و الصريحة.
قد يقول قائل أنها مجرد افتراضات أو تخمينات لا ترقى لمستوى الدراسة المنهجية السليمة ! و قد يقول آخر أنها تفتقر لخصيصة التمثيلية لكافة شرائح الفقراء، لأن فيهم الشيخ و المرأة و الطفل، الأكثر قهرا و مظلومية ! كما قد ينتبه آخر لأنني لم أتجاذب كثيرا أطراف الحديث مع المبحوث، بغية التأكد من بعض افتراضاتي و مساءلته أكثر لاستدرار بعض المعلومات المعززة للملاحظة !
هذه كلها ملاحظات في محلها تماما، و أنا أبدا لست أدعي المعرفة، لا التامة و لا الجزئية للظاهرة موضوع الدراسة، لكن، الهدف المنهجي من كل ذلك، هو محاولة تفكيك خطاب ميتا-معرفي غير منطوق و لا مكتوب، خطاب ميميكي و هيرمينوطيقي في العمق، ذو أبعاد سيميولوجية و سوسيولوجية بحثة. و رؤية ما يمكن الخروج به و استخراجه من مطارحات و مدارسات، تعتبر الجسد متنا قرائيا زاخرا بالمعاني و فلكا أنطلوجيا جديرا بالسؤال و البحث … فكما عمد النفساني “سيجموند فرويد” إلى إبراز أن الجسد رغم علاته يتكلم لغة يعبر بها عن مكبوتات الذات، حيث يتحول الجسد مع فرويد إلى لسان حال المرء، عندما تتقمص اللغة صفة الخفاء والاستضمار ليصبح الجسد بذلك أداة للتصريح، وهو ما أكد عليه “موريس ميرلوبونتي” أيضًا عندما اعتبر أن اللغة هي في الأصل انعكاس لتعبيرية الجسد.
بالتالي يتحول مركز الاهتمام في هذه الدراسة، تتلقتئيا، إلى المنهج و الطريقة و الكيف، بدل النتيجة و الخلاصة و الكم. أي أن ما يهم هنا، ليس ما إن كان ما أقوله حقيقيا او لا، إنما يجب أن يكون ملزما موضوعيا و منطقيا، و ليس إن كانت النتيجة غير مقنعة أو غير كافية، إنما يجب أن تكون منهجية و سيستيمية و منتظمة و متراكبة منهجيا.
سأفتتح بسط الإشكالية ،من خلال تفريعها لمجموعة أسئلة مترابطة موضوعيا ،تكون مباشرة و بسيطة ،تنهل كلها من سجل البداهة و المنطق العقلي المحض ،فأقول كسؤال أولي :
– ما سبب كل تلك الأضرار التي لحقت ذلك الجسد ” الركام ” ؟
– كيف تشوّه مظهره الشكلي “المورفولوجي” العام بهذه الطريقة ،و ما هي القوى الاجتماعية المساهمة في هذا التشكيل الجسداني، و المتدخلة في هذا الإخضاع ؟
– هل كان ليصل لما هو عليه الآن ،لو أنه انتمى لسجلات اجتماعية مغايرة .. لطبقة أرفع ،لمركز اجتماعي أعلى ؟
التحليل و المناقشة:
ركزت بعض الدراسات الاجتماعية على تعرية الحالة المزرية للطبقات الكادحة في سياق الثورة الرأسمالية، وفي الوقت نفسه المطالبة بإصلاحات ثورية، ومن ثم يمكن القول إن الجسد أصبح ضمنيًا فعلًا ثقافيًا في هذه الدراسات، أي أن الجسد منتوج للوضعية الاجتماعية للإنسان. ولكن الباحثين في هذه الموضوعات ركزوا على السوسيولوجيا الاقتصادية والسياسية، وغُض النظر عن سوسيولوجيا الجسد المتضمنة فيها، وبخاصة كتابات كارل ماركس ،مما جعل مبحث الجسد، لا يلقى ما يستحقه من اهتمام، إلا بشكل عارض غير موسع.
من هنا ،سنبدأ نحن أولا بتحديد الوضع الاجتماعي ،المهني ،الاقتصادي ،الثقافي،السياسي،للمبحوث .. من خلال بسط مجموعة افتراضات، و اختيار أقربها للاحتمال الصحيح ،لكن دون أن نقع في التأويلات الفضفاضة أو الأحكام الجاهزة، مبررين كل حكم أو اختيار انطلاقا من الدليل العقلي المحض، و كذلك عبر التقيد بقواعد التحليل المنطقي الصارمة ،إضافة للعدة المنهجية للسوسيولوجيا ،و بالضبط تقنية دراسة الحالة. و مستوحين كذلك براديغم التحليل الطبقي لكارل ماركس ،القائم على الصراع الاجتماعي.
فمن خلال المشهد العام لتلك الحالة الاجتماعية يتضح جليا ،أن الرجل ينتمي للطبقة الكادحة ،و يعبر عن شريحة اجتماعية متميزة الملامح، إنها فئة العمال ،الأرجح ليس عمال المصانع، بحكم أن مدينة صفرو ليس بها مصانع كبرى،إنما هناك مصنع واحد للنسيج و يضم عاملات من الإناث حسب علمي، كما أن الحالة تعاني أعراض الهشاشة الاجتماعية ،و ذلك كان باديا في هيأة الرجل العامة، من جسد ضامر و ملابس رثة و أدوات استحمام قليلة .. و يمكن استنباط مهنته من خلال ،أثرها المصطبغ على صفحة جسده بأكمله ،فالعمود الفقري المعوج و آلام الظهر المزمنة ،و غضاريف المفاصل البارزة ،و عظام الأصابع المعوجة ،حتى الكدمات و التورمات في القدمين ،الى جانب السمرة القاتمة الدالة على التعرض لأشعة الشمس لوقت طويل .. جميعها مؤشرات تشي بحقيقة مهنته ،التي أفترض أنها “حمّال” على الأغلب، التي تعني في ثقافتنا المغربية ،حمال أثقال ،و هو ذلك الشخص المشتغل بحمل أثقال الناس ،و وضعها في عربة لجرها يدويا أو دفعها من الخلف ،و يتمركز هؤلاء المياومين في أحواز الأسواق و متاجر الجملة ،و متاجر التجهيزات المنزلية ،كيف عرفت ذلك ،لأن أنشطة الرفع و الدفع و الجر ،هي من تفعل في الجسد ،تشكيلا و تغييرا و تشويها ،فتبدل معالمه المورفولوجية بشكل مباشر و جذري ،خصوصا منها ،الهيكل العظمي و المفاصل و العمود الفقري .. هذا إلى جانب الأحذية القاسية البالية، التي يرتديها طيلة يوم العمل ،حيث تكون وحدها خليقة بالتسبب بكل تلك التورمات و الكدمات و الجراح في القدم ،كما تدلل عظام أصابعه الملتفة ،على حمله للأثقال بشكل متكرر ،كما ظهره المعوج و آلامه المزمنة.
أما و قد حددنا نمط مهنته ،سيسهل تصنيف وضعه الاجتماعي و تحديد انتمائه الطبقي ،بحيث أنه ينتمي للطبقة الكادحة في المدن ،التي تمتهن مهنا هامشية غير مهيكلة ،ضعيفة الدخل اليومي ،غير منتظمته ،بحيث قد يكثر العمل في بعض المواسم أو الفصول ،كالصيف حيث يسافر الناس ،و مناسبات الأعياد و الاحتفالات ،دونا عن باقي أيام السنة ،حيث يكون العمل شحيحا، و القوت عسيرا.
نصل للسؤال الأهم ،الذي يقول ،هل كان ليصل ،هذا الرجل ، لما هو عليه الآن ،لو انتمى لسجلات اجتماعية مغايرة .. لطبقة أرفع ،لمركز اجتماعي أعلى ؟
.. الجواب : بالتأكيد و القطع، لا، لأنه ما كان ليصير لما صار إليه بعد امتهانه مهنة ” تاحمالت ” .. لأنه لن يضطر للخضوع لمشاق و قوى العمل و الإنتاج، فهو الآن يعمل ،لا كمخير ،و لكن كمسير ،فرض عليه هذا العمل فرضا ،بسبب شروط اجتماعية مجحفة تنبني على المراتبية الطبقية و التمييز و الاستبعاد الاجتماعيين ،و تحيل على إفرازات سياسة عموموية فاشلة، و سياسة سلطوية مروضة للأبدان و مدجنة للعقول ،و إلا كيف نفسر تقبله لوضعيته تلك ،أو قل ،على الأقل ،الصبر و الاصطبار عليها و محاولة الاستزادة في التحمل و كتم الشكوى، إلا في شكل تنهيدات متقطعة متمردة .. إنها مأساة بشرية ،فاجعة إنسانية تهز أركان الضمائر الحية ،حين نطالع عن كثب ،جسد إنسان ،مشبع بكل آثار العنف تلك ،مثقلا بأصناف الندوب و ألوان الجراح ،النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ،و كأنه جسد “معذّب-مدنس اجتماعيا”، ينادي بالنجدة و يدعو بالخلاص ،فحين قال رولان بارت أن للجسد لغته الخاصة ،لم يكن يكذب ،فكل ما أفصح عنه ذلك الجسد المعذب-المدنس “المروض” ذلك اليوم، لم تكن لتفصح عنه آلاف الجمل و ملايين الخطب العصماء ،فالخطاب الذي صرّفه ذلك الجسد ،كان أبلغ من أي لغو كلامي، كان خطاب شكوى و احتجاج و ثورة مصدرها السطح العاري، عوضا عن الأعماق المتوارية خجلا من العار و الوصم الاجتماعي، و حركته صرخة مجسدنة تهزّ الأركان ،و زعيق فيزيقي يرج الأسقاع و يصمّ الآذان.
أستحضر في هذا السياق، تعبيرا جميلا للسوسيولوجي المغربي “محمد أبلال” ،الذي يتحدث عن الجسد، في إحدى محاضراته، كآلية سياسية للانتقام و التجريح ،بربطه بالأطر الثقافية و الدينية و الأيديولوجية التي تفرض نوعا من الحجر على الجسد ،و ما يلحقها من مسلسلات تحريم و منع و عقاب ،عبارة عن انتقام اجتماعي بالنفي و العزل للفرد الحائد عن القاعدة الاجتماعية و المتعارف عليه و السائد اجتماعيا. يقول يجب علينا القطع مع “ذهنية التحريم”[3] و ما تنسحب عليه من قمع و ضبط سياسي و اجتماعي للمتخيل الجمعي للجسد.
-
الجسد ثقافيا :
إن الجسد على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو” هو تشييء لذوق الطبقة دون أدنى شك ! و هو الهابيتوس الجسداني ،فللجسد استعمالات اجتماعية فمن خلاله نعبر عن ثقافة و معتقدات الشريحة أو الطبقة التي ننتمي إليها، والجسد أيضا هو في سوسيولوجيا الأشكال عند عالم الاجتماع الألماني “جورج زيمل” عبارة عن مظهر من مظاهر الحقيقة الاجتماعية ففي دراسته عن الموضة جعل زيمل الجسد و الشكل في واجهة التحليل السوسيولوجي.
دون أن نغفل في هذا السياق الحديث عن تيمة الثقافة ،في علاقتها بهذه الوضعية الهامشية ،إذ علمنا الباحث و الأنثربولوجي الأمريكي المشتغل بجامعة شيكاغو ،”أوسكار لويس” بأن : “فقر الثقافة،هو واحد من المظاهر القاسية لثقافة الفقر”.4[4] و هو يقصد ثقافة الهامش الاجتماعي مقابل ثقافة النخبة، بالتالي فالوضعية الاقصائية لهذه الفئة ،تجعلهم يستبطنون ثقافة تتلاءم و شروط حياتهم تلك ،من قناعة و كفاف ،و تردد و توجس ،و غياب الثقة بالنفس و بالآخر ،وما تنسحب عليه هذه الخطاطات الذهنية من استراتيجيات احترازية انغلاقية للسلوك ،تجعل الفرد حبيس دوائر فعل مغلقة ،تبتعد عن المغامرة و المبادرة و اقتناص الفرص الحياتية الجديدة. و تجنح للسكونية و أسبقية الأمن العائلي و الشخصي. فهي إن أردنا ،عامل من عوامل تعميق المشكلة و ترسيخها ،و إعادة إنتاجها في الأجيال المتعاقبة من أبناء و أحفاد.
إن هذا الفاعل الاجتماعي ،المعرض جسده لكل أشكال التعنيف و التعذيب المادي و المعنوي ،المحاصر في دوائر ثقافية جامدة مجمّدة ،و المسيج فعله سياسيا بالمراقبة و المعاقبة ،المؤطر ببنى و وظائف اجتماعية مفروضة بقوة الأشياء (الكسب المادي) ،تمارس كلها مجتمعة نوعا من القهرية المخضعة للجسد، المشكلة لمعالمه الدالة و الناحثة لصوره البئيسة و المأساوية. إننا ،بتعبير آخر ،نشهد مسخا اجتماعيا للأجساد ،إنه تنكيل بهذا الجسد و إنزال لأشكال التبخيس و الإهانة به. إما عقابا أو انتقاما أو ترويضا أو تهميشا .. في الحالات كلها ،يبقى الجسد مركز العذابات و محور الآلام ،كما قد يكون أيضا ،بالنسبة للمحظوظين من الطبقات المرفهة ،محط اللذائذ و مرتع المتع و محرّك الرغبات.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أول محاولة كلاسيكية للسوسيولوجيا التاريخية، في كتاب “حضارة الأخلاق” عام 1939 للكاتب “نوبرت إلياس” في ألمانيا، إذ أشار إلى جنيالوجيا المظاهر الخارجية للجسد، مذكرًا بالخصائص الاجتماعية والثقافية لعدد من الممارسات والمسارات الأكثر اعتيادية وحميمية للحياة اليومية. و التي تستقى منها شرعية و ملحاحية هذا الموضوع، في راهن مجتمعات ما بعد حداثية أو مفرطة الحداثة، بلغة باومان.
كما عالج “روبرت هرتز” مسألة رفع اليد اليمنى “داخل المجتمعات الإنسانية” إذ كتب قائلًا “ليس هناك اعتراض على أن اليد اليسرى يمكن أن تتلقى تربية فنية وتقنية مثل نظيرتها اليمنى التي تحظى لحد الآن بالامتياز”[5]. أي يمكن الاستنتاج أن العوامل الفيزيولوجية ما هي إلا ثانوية عارضة، مقارنة بالعوامل الثقافية التي كونتها التمثلات السلبية الدائمة أمام اليد اليسرى والإيجابية أمام اليد اليمنى، ما يجعلنا نتوجه لليمنى تدريبا و تمهيرا و لليد اليسرى تثبيطا و إهمالا، فالإيماءات الجسدية ما هي إلا رموز اجتماعية وثقافية متعارف عليها في مجتمع محدد بذاته.[6]
هذا دون ذكر بعض الممارسات الاحتفالية و الدينية مثلا، في مختلف الثقافات و الشعوب، و ما يرافقها من وشوم و ثقوب و نقوش و رسم و طبع و تطريز، للرموز و الطلاسم، على صفحة جسد الإنسان، و هذا تشتغل عليه الأنثربولوجيا الثقافية بشكل أكثر عمقا و تفصيلا.
-
الجسد ثيولوجيا:
لقد اعتبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية ،عبر التاريخ ، موطنًا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولازال الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات المجتمعية و الديانات و الشرائع.
كما كان الجسد ،في التصور اللاهوتي ،موضوع إخفاء و حجب باسم أخلاق العفة و الحياء و الحشمة و الستر ،و قد توبع بمجموعة من القوانين و التشريعات ،المؤطرة لحدود التعامل معه، و التي تروم تهذيبه و حفظ حرمته ،تحت طائلة الثنائيات المتقابلة ،إخفاء/إظهار ،باطن/خارج ،حاجب/كاشف ،ساتر/فاضح ،.. إلخ ،من أشكال فرض الحجر على هذا الجسد و تقنين التعامل معه ،مع إسقاط مبدأ الملكية الشخصية عليه، و بالتالي إسقاط حرية التصرف فيه ،مقابل إقامة سلطة الجماعة و إخضاعه للملكية الجماعية الضابطة و المراقبة و المحاسبة.
أمام هذه الوطأة الجاثمة للأنساق الدينية، خصوصا في بلداننا العربية المسلمة ،خلقت حالة من إنشطارية الذات و تجزءتها ،مما أصبح يستوجب مصالحة هذه الذات من جديد ،و إعادة حالة التوافق و التناغم و الانسجام اللازم لإقامة حياة سوية خالية من التوترات و الاضطرابات النفسية و الاجتماعية ،إذ لا تعارض بين المعرفة والمتعة،بين الروح والجسد ،اللهم إلا بسبب العلاقة المضطربة تاريخيا للجسد بالذات الإنسانية ،لأنه اعتبر إبستمولوجيًا، بمثابة عائق أمامها لبلوغ المعرفة، مثلما أنه أكسيولوجيا/أخلاقيًا، اعتبر يمثل مصدر فساد و غواية و رذيلة، الأمر الذي قد يتجاوز بحضور قيمتي الاعتدال و العدل ،الاعتدال في الملذات الحسية ،و العدل في تقسيم الحقوق و الواجبات بين الناس وفق حاجياتهم الواقعية ،تحت طائلة المساواة و التكافؤ. هذا بشكل عام.
أما في الماضي القريب البعيد مغربيا، نصادف من بين استراتيجيات ترويض الجسد ، ما يصطلح عليه الجسد “المفارق و الخوارقي”[7]، في معجم السوسيولوجي المغربي “عبد الرحيم العطري” ،تعبيرا عن المتن الأوليائي و متن الصلحاء، وما تكتسي ممارستهم التعبدية ،من طقوس تعذيب اختياري للجسد ،عبر تحمل مشاق العبادات و الاصطبار عليها ،و كذا ضنك الأعمال اليومية، حتى يستحق هذا الجسد صفة البركة و يكتسي قداسة بشكل من الأشكال، و هذا يشبه في متن عبد الله حمودي ،وصفه لوضعية انتقال المريد الى شيخ ،بحيث يتوجب عليه تحمل مجموعة من الممارسات الجالدة للذات تعذيبا و تنكيلا و تبخيسا ،في شكل من أشكال إثبات الأحقية في الانتماء لسجل الصلحاء و الشيوخ ،فيما يسمى بطقوس العبور أساسا، التي تفرض حضور كرامة من الكرامات ،ككرامة طي الطريق أو كرامة المشي فوق الماء أو كرامة الطيران أو كرامة تحمل الجوع و العطش ،و هذه جميعها معجزات خوارقية غايتها إبراز فارقية الجسد و مفارقته للمألوف و العادي، في مواجهة سلطة سياسية مخزنية تتفنن بإنزال ألوان العذابات بهذا الجسد عبر التاريخ. فقداسة الجسد طالما كانت إنتاجا اجتماعيا ثيولوجيا بالأساس يعيد التأكيد على أن هذا الجسد ،”محط الدنس ” ،يمكن أن يصير موضوع قداسة و تسامي ديني و فارقية إعجازية.
هنا نبسط نحن استفهاما سريعا، فنقول، بنفس الطريقة التي بسطت بها أطروحة “قداسة الجسد” و فارقيته باتجاه العليات السماوية و العوالم الماورائية، ألا يمكن الحديث عن “جسد مدنس” ،جسد مبخس، و المقصود هنا ذلك الجسد المنتهكة حرمته نفسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا .. بالتالي ، ألا يجوز التساءل عن مصدر دونية هذا الجسد “المفارق و الفارق” – بالمعنى السلبي للكلمة -، أليس لنا القول بسياق مجحف لانبناء هذه الهوية المجسدنة، بالتالي من هنا بالذات سوف يكون منطلقنا، محاولين تحليل الجسد المدنس والمقموع، الجسد الذي يُشترى و يباع ،يستأجر و يستعبد ،يستغل تحت طائلة سلطة المال و كماشة التنقيد و التشييء ..، بغض النظر عن أصوله، عرقه و لونه و انتمائه، إنه الجسد المهان الذي لا يعترف بقدسيته، و لا حتى بإنسانيته على الأقل ،لا أخلاقيا ثيولوجيا و لا اجتماعيا ثقافيا و لا إنسانيا قيميا، إلا بعد أن تغادره الروح !…
-
الجسد سياسيا :
لقد ناقش المفكر الفرنسي “مشيل فوكو” باستفاضة أطروحة تدبير السلطة للجسد، مؤكدا على عدم وجود فائدة من تغييب الجسد، بل دعا بإلحاح إلى استحضاره كمتن تحليلي، وإلى الكشف عن المسكوت عنه، فالجسد له فكره، والفكر له جسده، ومن لا جسد له، لا فكر له، لأن هناك ترابط عضوي بين الجسد والعقل، بل يذهب إلى أن تحقير الجسد وإنكاره بمنزلة حرب مدمرة للروح أيضًا.
لقد كانت تحليلات فوكو عن الجنس ، الشذوذ ، الجنون ، الموت ، السلطة ، المراقبة و العقاب ، السجن ، العيادة ..الخ تصب في منحى علم الاجتماع الجسد ، فبنية الفرد الاجتماعي المكونة من روح و جسد، هي خاضعة حسبه الى البنى الاجتماعية و السياسية و الثقافية و الدينية و غيرها و كما تتأثر الروح بسلطة البنى فإن الجسد أيضا يتأثر، بل أن السلطة السياسية (البوليسية) الممارسة على الجسد، كالعقاب مثلا بالتعذيب بالكهرباء أو السوط أو غيرهما، يكون فيها الجسد هو الواجهة التي يتلقى من خلالها الفرد، ذلك العقاب ليصبح الجسد بذلك طيعا، مروضا ، فاعلا مدجنا ، بمعنى أن الجسد هنا كمفعول به له دلالة بليغة و حضور قوي في فهم و تحليل الفعل الاجتماعي الصادر عن الفرد الفاعل، الذي طالما كان منظورا إليه على أنه روح فاعلة (حية) تعيش داخل جسد صامت (ميت) مهمل لا دور له ولا أهمية ! و هو الأمر الذي جاء بفرع جديد يدعى علم اجتماع الجسد ليضطلع بالدور الحاسم، في فهم و تحليل العلاقة الجدلية بين الجسد و النظام الاجتماعي.
اشتغل فوكو على رصد عملية تطبيع الجسد، مدرجا إياه إلى مجال الخطاب السياسي، فالجسد ليس مجرد معطى طبيعي بل هو إمكانية لإنتاج اجتماعي من خلال النظم السياسية والمعرفية التي يَتَنَمَّطُ فيها، فالجسد إذن حسب فوكو يقع تحت تأثير عدة قوى تعمل على تطويعه و تشكيله، فالجنس مثلاً بما هو نشاط جسدي يمكن أن يصبح رهانًا سياسيًا عندما يرتبط بتنظيم السكان من إنجاب وتحديد للنسل وغيره… ويمكن قياس عملية تطويع الجسد في عدة مجالات: كمجال الإنتاج الاقتصادي، و السايسي والحقوقي…
لقد استخدم ميشيل فوكو الجسد كاشفا ثمينا لتحليل آليات و أدوات السلطة في المجتمعات الغربية المعاصرة، فيما يسما في نظريته المعروفة بـ “ميكرو-فيزياء السلطة”. ويرى فوكو أن الجسد يعتبر أحد أهم الوسائط التي تم استخدامها لممارسة وتمرير سلطة مغلفة محجوبة، عبارة عن رقابة سياسية مهذبة. ولعل التواطؤ بين إرادتي القوة (السلطة) والمعرفة (الخطاب) كان مرصودا لخلق تكنولوجيا تحول الجسد إلى طاقة إنتاج وتعدم كل إمكانياته ومؤهلاته التي من شأنها عرقلة أهداف النظام السياسي. وقد بين فوكو أن حرص مؤسسة السلطة على امتلاك جسد الآخرين، تطور في شكلين أساسين لممارسة السلطة والرقابة على الجسد، يعبر عنهما فوكو بمفهومين مركزيين هما: التشريح السياسي للجسد و البيولوجيا السياسية للسكان.
وهكذا تغيرت تقنية السلطة في نظرتها لطبيعة التعامل مع الجسد فلم يعد القتل أو التعذيب، هو أهم وظائفها كما كان من قبل، بل أصبح الأهم هو التحكم في هذا الجسد، إدارته وتدبيره و ضبطه و مراقبته، ويعتبر فوكو أن السلطة على الجسد كانت من أهم العناصر لنمو الرأسمالية. نمو لم يكن ليتحقق لولا الدمج المضبوط والمراقب للجسد في جهاز الإنتاج، وعبر تكييف وملاءمة الظواهر السكانية مع الصيرورة الاقتصادية، و تعد أعمال “جان ماري بروهم” خير مثال على البعد السياسي في سوسيولوجيا الجسد، فقد كانت تبتغي توضيح أن كل سيادة لا بد أن تفرض نفسها بالعنف والإكراه الجسدي، بمعنى أن كل نظام سياسي يوازيه نظام جسدي، ما أدى بالتحليل إلى مرافعة ضد النظام السياسي النابع من الرأسمالية التي تفرض سيطرتها المعنوية والمادية على الاستعمالات الاجتماعية للجسد، وتنشئ التشيؤ.[8]
هناك أيضا، ما يسمى بثقافة التحمل والصبر المتطلبة للإرهاق البدني “الماراثون، المنافسات الطويلة والتنزه مشيًا على الأقدام في السهل والجبل …إلخ”[9]، إذ وضع الباحث ديفيد لوبروتون هذه الممارسات في علاقة تماثلية تناظرية مع الأزمة الاقتصادية والأيديولوجية الكبيرة التي تميز الغرب.
إن الاهتمام المتزايد بتضاريس الجسد الخارجي، وربطها بحقبة الحداثة العالية -حسب تسميته-، حيث يشكل حضور الجسد المكثف في الثقافة الاستهلاكية اليوم واحدًا من أبرز المظاهر التي ترمز إلى الذات، حتى أنّ “براين تورنر” استحدث مصطلح “المجتمع الجسدي” للدلالة على أنّ الجسد غدا في الأنظمة الاجتماعية الحديثة المجال الرئيس للنشاط الاجتماعي و الاقتصادي.[10]
-
الجسد إستطيقيا:
خلال القرن الحالي، أصبح من الممكن بل من الضروري الحديث عن الجسد كقيمة جمالية و بناء إستطيقي أساسا، إذ نجد أنفسنا وجها لوجه أمام موضة المشاريع الجسدية، في زمن الشكّ الذي نقف على عتبته، فقد أصبح ترويض الجسد من حيث الحجم والمظهر وحتىّ المحتوى قابلاً لإعادة البناء والتشكل وفق تصميمات وخيارات صاحبه، تحذوه في ذلك الرغبة في الحصول على الجسد المثالي الفاتن لبعث رسائل رمزية للغير و تحقيق القبول الذاتي و الاجتماعي. ومع ذلك فهذه المشاريع التي تتوخى التشكيل الشخصي لأجساد أكثر معافاةً وفتوةً ومقبوليةً، تتعرض لمخاطر صحية مهلكة من قبيل الأمراض المستعصية العلاج: كالسرطان، وأمراض القلب، والكبد، وغيرها، فبالرغم من كل الاحتياطات التي يتبعها الجسد عبر اتباع حميات غذائية صارمة، ومزاولة أنشطة رياضية بانتظام، فإنّ ذلك لا يحميه من التعرض للأمراض القاتلة.
إنها مشاريع الصحة والعمليات الجراحية التجميلية وكمال الأجسام، أمثلة رائدة للدلالة على مدى الاهتمام المتزايد للفرد الحداثي بجسده، الذي غدا وسيلة للتعبير عن الذات والشعور بالغبطة والرضا. وفي الوقت نفسه يمكن اعتبار هذه المشاريع محاولة منا لتأجيل مسائل وجودية تشغل بالنا تتعلق بمصير الجسد النهائي (الموت المحتوم)، أو (الجسد الجثة).
يقول (بيير بورديو) عن الجسد في مقال بعنوان: “الاستعمالات الاجتماعية للجسد” هو: تشيئ لذوق الطبقة من دون أدنى شك “[11]، “فالعمال يعطون للقوة الجسدية أهمية أكثر من أصحاب المهن العقلية، إذ يعطي الأخيرون قيمة للطاقة والجمال أكثر”، من السهل أن نبين أن الطبقات الاجتماعية على اختلافها لا تتوافق حول ممارسة الرياضة، وسواء أكانت الاستفادة الخاصة حتمًا جسدية، فإنه يصعب القول إنها حقيقية أو خيالية، ما دامت الحقيقة متوقعة خارجيًا بالنسبة إلى الجسد مثل الرشاقة والأناقة أو تنمية الجهاز العضلي، وأولها تأثيرات في الجسد الداخلي مثل السلامة الصحية أو التوازن النفسي”.[12]
يكتب سبنسر في (نشيد على شرف الجمال): “لأن الروح هي الشكل وهي ما يقدمه الجسد، وهو بهذا يردد كلمات الأفلاطونيين الجدد، ومع ذلك لا يوجد دليل في الحياة يؤكد هذا القانون إلا أنه ينطبق بشدة على الفن، فالجسد العاري يظل أعظم مثال علي تحويل المادة إلى شكل، وليس من المحتمل أيضا أن نرفض الجسد مرة أخري كما حدث في تجربة الزهد والتقشف في مسيحية العصور الوسطي، فلم يعد يمكننا أن نقدسه ولكننا تصالحنا معه وتقبلنا حقيقة أنه يصاحبنا طوال حياتنا.”[13]
إذن و نحن نتحدث عن قيم و أخلاق مضطردة التحول لعالم متسارع التغير، خصوصا وقد صار هذا الجسد، المعتنى به، ليس رمزًا للجمال الجسمي وحسب، ولكن خلاصة النجاح الاجتماعي أيضا، والسعادة والكمال.. هل يستطيع الإنسان المعاصر، أن يحقق سعادته في مسايرة العصر، من دون التساؤل عن قيمة هذا الجسد المعذب والمستعبد؟
-
الجسد سوسيولوجيا :
لا زال موضوع الجسد مفكرا فيه سوسيولوجيا، موضع جدال بين الباحثين الاجتماعيين، حيث تعتبر سوسيولوجيا الجسد فرعا حديثا من فروع علم الاجتماع، إذ أن الجسد لم يكن موضوع معرفة سوسيولوجية يتمتع بمكانة الموضوع المحوري الأساسي، بل كان حضوره لا يتجاوز مستوى الحضور الافتراضي أو مجرد محور صغير ضمن محاور كبرى. أو كما قال جون “ميشيل برتلو” : “مادة سوسيولوجية ذات خسوفات”.[14]
وهذا لايعني غياب الاهتمام المعرفي بالجسد قبل هذا التاريخ، بل بالإمكان رصد الإرهاصات الأولى لهذا الاهتمام مع بدايات العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر، الذي كان حسب ميشيل برتلو “قرن الاهتمام بجسد العمال، وما يعيشونه في ظل ظروف العمل القاسية، من استنزاف مبكر وأعطاب وتشوهات.[15]
فقد افتقرت الاهتمامات السابقة في أوربا إبان النهضة إلى دراسة جسد العمال ورصد معاناتهم في المناجم والمصانع، كما نجد في دراسة “فيليرمي” في بحثه القيم عن الحالة الجسدية والنفسية المزرية للعمال المشتغلين في معامل القطن والصوف والحرير. وبناء على هذا الاهتمام المتزايد بالجسد العمالي سيتم الاهتمام بالانعكاسات السلبية للتصنيع على الصحة، وخصوصا مع تغير نمط عيش السكان نتيجة انتقالهم من الأرياف إلى المدن وما رافق ذلك من تكدس العمال بالقرب من المعامل في سكن غير لائق.
ومع ظهور مدرسة “التحليل النفسي” بدأ الحديث عن لغة الجسد، حيث أصبح الجسد لغة تعكس بشكل غير مباشر العلاقات الفردية والاجتماعية، كما تعكس الاحتياجات والرغبات ولو بطريقة رمزية.
ورغم أن رائد مدرسة التحليل النفسي “سيجموند فرويد” لم يكن متخصصا في علم الاجتماع، فقد كان صاحب الفضل في أن أدخل الاهتمام بالجسد كمادة تصنعها وتنتجها العلاقات الاجتماعية، ويساهم في تشكيلها التاريخ الفردي للفاعل الاجتماعي”.[16]
ومع بداية القرن العشرين ستتبلور”سوسيولوجيا متقطعة حسب تعبير “دافيد لوبروتون”، وذلك من خلال دراسات انطلقت من فرضية أساسية مفادها أن الإنسان يصنع وينتج اجتماعيا خصائص جسده، من خلال اندماجه مع الآخرين، وانخراطه في مجال الرمزي. وقد بين لوبروتون أنه منذ الستينات من القرن المنصرم انطلق مخيال جديد للجسد واقتحم ميادين الممارسة وحضر في الخطب وهذا لم يكن معهودا إلى ذلك الحين بعد فترة من القمع والتكتم يفرض الجسد كموضوع مفصل للخطاب السوسيولوجي ومكان هندسي لإعادة غزو الذات. تلك الأرض التي علينا ارتيادها حيث يمكن رصد الأحاسيس التي لا تحصى ومكان المجابهة المرغوب فيها مع المحيط، بفضل الجهد أو البراعة. إنه المجال الذي فيه تتجلى الرفاهية وحسن المظهر من خلال بناء الجسد عن طريق أنشطة كالتجميل والحمية والرياضة، كما رأينا ذلك سالفا.
إن الاستثمار الاجتماعي للجسد، وفقا لـ “بيير بورديو”، يجعل أشكال اشتغاله وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية ومرآة للتقابلات الاجتماعية مثل التفاعل بين الطبقات الميسورة و الطبقات الكادحة، ما بين الذكورة والأنوثة، إذ يتجسد ذلك في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع من أشكال التصرفات والسلوكات مثل صفة المشي والجلوس…. وبالتالي فالبناء الاجتماعي للجسد يعكس تقسيم العمل الجنسي ،تقسيم العمل الاجتماعي ، .. وبالتالي فإن الاستثمار الاجتماعي للجسد ليس في نهاية المطاف إلا تعبيرا عن “ميثولوجيا سياسية” تحولت إلى استعداد مستمر في شكل طريقة دائمة لاتخاذ أوضاع جسدية للكلام والمشي ومن ثم الإحساس والتفكير.
في نفس السياق، و علاقة بموضوع إشكاليتنا، الجسد كمؤشر و تمظهر لصراع طبقي مراتبي، نستدعي ملاحظة هامة لأحد السوسيولوجيين المغاربة المهتمين بسؤال الجنسانية العربية، يقول، أصبح الجسد الأداة الأولى، التي تُعلن عن الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، كما أكد الباحث عبد الصمد الديالمي في كتابه (سوسيولوجية الجنسانية العربية، ص 89).[17]
ففي المجتمعات التي ما تزال تقليدية و طائفية فإن الجسد يصبح بمثابة رابط الطاقة الجماعية ،إذ من خلاله يدمج كل إنسان في الجماعة ،و بالمقابل فالجسد في المجتمعات الفردانية (الرأسمالية) يعد قاطع التيار ،إنه يرسم حدود الشخص، أي : حيثما يبتدئ و ينتهي حضوره. على حد قول لو بروتون.
وذلك ما يمنحنا مشروعية التساؤل الأتي : هل استطاعت السوسيولوجيا أن تستنطق جروح الجسد دون أن تعمقها ؟
-
جسد العولمة أو عولمة الجسد !
يمكننا في هذا المحور، طرح تساؤل بالصيغة الآتية: هل العولمة من تنتج جسدها المعولم ؟ أم أن الجسد بمدلولاته الثقافية و مخزونه الرمزي و المادي هو من ساهم، بتكيفه المستمر و طواعيته الشديدة، في إنتاج زمنه و نظامه المعولم؟
لا يخفى على أحد اليوم، المؤثرات السلبية للزواج المشبوه لكل من النظامين السياسي و الاقتصادي، النيو-ليبرالية و الرأسمالية المالية، و التي أسفرت عن طفرات إنتاجية مهمة خصوصا في المجال البيو-تقني و التكنو-معلوماتي و تكنولوجيا الاتصالات، جعلتها تذهب بعيدا في مجال التجارة و الأعمال و المعاملات الماكرو-اقتصادية العابرة للدول و الحدود. الشيء الذي جعل من العالم سوقا موسعة لتشغيل العوائد الفاحشة للراسمال الدولي. من هنا كان الاستثمار الاقتصادي للجسد وتشييئه من خلال استغلاله في الدعايات و الإعلانات، وتحويله إلى أداة لا قيمة لها، إلا بمدى تحقيقها للمنفعة والربح والإنتاج. لا قيمة للجسد إلا متى كان منتجا ومستعبدا في الآن ذاته. لقد اختزلت الرأسمالية قيمة الجسد في بعده الأداتي، المنفعي و الجمالي، أي “البعد الواحد” بلغة “هربرت ماركيوز”، المحرك لعجلة الإنتاج و المفيد لتطور الرأسمال و مراكمته.
تؤدي العولمة تسليعا رائعا للجسد. إن الإنسان المعاصر أصبح عبدا لجسده، بفعل ما تقدمه المراسلات الإشهارية يوميا من أجساد جميلة وجذابة و نموذجية، و انعكاسات ذلك على المخيال الشعبي، الشيء الذي ينتج فردا مغتربا عن ذاته ومستلب الهوية، غير راض على وضعيته وغير راض على جسده، الذي يصير موضوع مقارنة بالأجساد الإشهارية “المثالية”، مما يخلق لديه جروحا نفسية عميقة. فبما أن هناك هوة عميقة بين جسد الفرد العادي والجسد النموذجي الذي يسوقه الإشهار، فإن كثيرا من الأفراد أصبحوا يستثمرون في أجسادهم باعتبارها واجهتهم الوجودية وهويتهم الواحدة، في علاقتهم بالعالم الخارجي ..وخصوصا وأن بعض فرص سوق الشغل كالإعلام مثلا أصبحت تضع شرط الجسد النموذجي في أول شروط قبول الملف.
لقد كرست إيديولوجيا الإشهار، كمثال على تغول النظام الرأسمالي، في لاوعي المتلقي، أن امتلاك مثل ذلك الجسد النموذجي يمر عبر استهلاك تلك السلعة، وبذلك يقوم المستهلك بعملية محاكاة غير واعية، بين الرغبة في السلعة والرغبة في الجسد، فيذهب للشراء وهو سعيد لأنه حقق رغبته المكبوتة والمتمثلة في الوصول الى ذلك الجسد، إن الوظيفة الرئيسية للإشهار هي السعي إلى تجاوز التعارض أو التناقض بين المتعة والشعور بالإثم، إنه فن يتمكن من بيع البضاعة بعد أن يمهد لها الطريق للإحساس بالمتعة وتغييب الشعور بالذنب. إنه يغوينا بشراء المنتج من دون أن يفرض علينا ذلك، في الوقت ذاته يوهمنا أن ما قمنا بشرائه سينعكس إيجابا على حياتنا الاجتماعية، وذلك يمنحنا مكانة أو قوة اجتماعية أكبر.
لقد كانت نبوءة “جان بودريار” صادقة، و التي ضمنها كتابه الهام “المجتمع الاستهلاكي”[18]، حين اعتبر الجسد وبعد عدة قرون من العفة والماهوية أصبح الأسطورة الموجهة لأخلاق الاستهلاك. لقد أصبح استخدام الجسد ضرورة لابد منها في كل الرسائل الإشهارية التي تملأ وسائل الإعلام، بأنواعها المختلفة وذلك بعدما كرست العديد من الوكالات الإعلانية مجهودات بحثية للتعرف على أعماق النفس البشرية، عن الطرق و “الخدع” التي تقود إلى اختراقها.
لقد أدرك علماء الإشهار أن الصورة أقوى من ألف كلمة كما يقول المثل الصيني في زمن يعرف بزمن “إمبراطورية الصورة”، كما أدركوا أن حضور الجسد الأنثوي بالأخص في الوصلات الإشهارية أكثر نجاعة في التسليع والتأثير على المتلقي.. فمعظم ما تبيعه الشركات ليس إلا رموزا أو معان فقط. إن الخطاب الإشهاري سلعنة للذوات وبالتالي فإن آخر تعريفات الفلسفة للإنسان مع “إرنست كاسيرر” أنه “حيوان رامز”[19] ربما لم تعد دقيقة، فالإنسان لم يعد “كائنا هيرمينوطيقيا” منتجا للرموز و حسب، بل أصبحت هذه الرموز بدورها تنتجه و تصنعه و تستهلكه، تماما كما ينتجها و يستهلكها هو … إنها مفارقة العصر الرأسمالي المعولم، حيث يشتغل فن إغراء الأفراد على السلوك بطريقة معينة. ففي مجتمع الاستعراض، يتحول المستهلك الواقعي إلى مستهلك أوهام. لقد قال أحد الباحثين في هذا المجال إن “الإشهار جيفة تواجهنا بالابتسام”.
إن الخلفية المحركة لمنتجي الإشهار، لا تقف عند مستوى البيع والشراء وكسب الزبائن، وإنما تمتد إلى المستوى الإيديولوجي و العقلي و النفسي، من حيث رغبتهم في التأثير على العادات والتقاليد والنظم والقيم و أنماط الاستهلاك، لذلك اعتبر الإشهار رسالة إيديولوجية قبل أن تكون رسالة تجارية استهلاكية. رسالة تخدم خلفيات و أجندات معينة، قصد تثبيت أنماط ثقافية وقناعات فكرية خاصة، عبر تقديم نماذج مؤسطرة باعتبارها الأسمى والأفضل والأكثر مقبولية في المجتمع.
وتحليل الخطاب الإشهاري تحليلا عميقا، يمكننا من نفي طابع الحياد والبراءة التي يتستر تحتها الإشهار. ولعل من الخلفيات الإيديولوجية التي يستضمرها هذا الخطاب هي إيديولوجيا تهدف إلى خلق الآني والدفع بالحاضر في الاستغراق المفرط في المتعة والاستهلاك، فالإشهار يخلق الحاجة الدائمة والمتجددة للاستهلاك، جاعلا الاستهلاك محور حياة البشر ونواتها المركزية، حتى أصبح شعار الفرد كما يقولون بالإنجليزية “طالما هناك دجاجة فوق المائدة فإن العالم لايهمني”، إن الفرد المعاصر لا يفكر فيما هو خارج حدود الدجاجة، إن صوت الاشهار لا يتوقف أبدا عن دفعنا إلى الشراء والشراء والشراء.. بل إن شعار الفرد المعاصر هو: “أنا أستهلك إذن أنا موجود…”.[20]
ولعل مما تطمح إليه هذه الموجهات الإيديولوجية التي تقول باتكائها على مفاهيم الحداثة ومابعد الحداثة وأخواتهما، هو الترويج للعديد من الأفكار التي فككت منظومة القيم وقادت إلى تآكل الرأسمال الاجتماعي.
وهكذا نصل إلى أن توظيف الجسد الأنثوي في الصورة الإشهارية، ما هو إلا وسيلة مغرضة لتعضيد ثقافة الاستهلاك وتقويتها، ولو كان ذلك على حساب منظومات الأخلاق والقيم والمثل، خصوصا في مجتمعات كمجتمعاتنا تعاني صنوف الحرمان والهشاشة الاجتماعية بمعناها الشامل و الموسع، ولا تعترف إلا بالاستهلاك والإنتاج والربح والتسويق. إننا نعتبر سلعنة الجسد الأنثوي عنفا لا يقل خطورة، عن باقي أشكال العنف التي تمارس في حق المرأة، كالضرب والتحرش والإهانة و الاغتصاب والتمييز… !
أستحضر في هذا السياق، قول أحد الباحثين الاجتماعيين المتخصصين في “الجنسانية العربية”، يقول:
– إن جسد بعض النساء العربيات الآن، أصبح ثقبا، يتسرب منه الآخر إلى داخل الأنا.
– أصبح الجسد بدوره سلعة، ورأسمالاً، يُباع، ويُشترى، ويُكرى.
– تحوَّل إلى أداة، نفعل بها ما نشاء، ونحن مستعدون لبيعها.
– فقد الجسد حرمته التقليدية، ولم يعد هو الدار الأولى للأنا، بعد أن كان حامي الأنا الأول.
– وإذا أرادت المرأة أن تمتلك قولها، فعليها امتلاك جسدها أولا، وعليها امتلاك نتاجه (الأطفال) أيضا.
هذا في إطار محاولة هذا الباحث التنبيه، لوضعية دونية المرأة، و محاولة رفع حالة الاغتراب الجسدي الذي تعايشه النساء، و ترزح تحت نيره، بفعل أيديولوجية السوق الحر “للرأسمالية” في تحالفها مع نظام “نيو-ليبرالي” مفرط الحداثة.
وأخيرا، نجمل نحن بالقول في هذا الخضم: .. ما الإشهار إلا ضرب من ضروب “الشعوذة” الرأسمالية. !
-
خلاصة:
لقد عوضت بلاغة الجسد بلاغة الروح تحت تأثير أخلاق الاستهلاك. كما يعلن ديفيد لوبروتون، و هو بذلك يفتحنا على أنطولوجية جسدانية جديدة و فلسفة جسدية محدثة، وسمت طبيعة تمثلنا لأجسادنا و أشكال تعاطينا معها، في العصر الراهن، سواء تطبيبا و رعاية أو تدريبا و تمهيرا أو تجميلا و تهذيبا أو تزيينا و توضيبا أو حتى تشكيلا و تشويها أيضا، بما يعنيه ذلك من تقنيات و طرق الاعتناء بأجسادنا و التعامل و حتى التواصل و التفاعل معها، إما على مستوى التمثلات و الخيالات و التصورات أو الأفعال و الممارسات الملموسة، سواء طقوسيا ثقافيا أو ميتا-معرفيا وجدانيا، و جعلها تنضبط لخطابات متعددة الصيغ و متماهية المضامين.
الجسد، ليس هو ذلك الحامل الضامن للحياة فقط، أو ذلك الاختراق الأنطولوجي لبوتقة الوجود الفيزيقي، أو ذلك الوعاء المادي الذي منه تندلق ينابيع اللذة و تشتعل نيران الرغبة و المتعة، بل هو كذلك، بيتك الدفيء الذي وجب أن تحسن توضيبه، و صديقك الوفي الذي وجب أن تحسن عشرته، و جنة أسرارك المخفية التي لا تعلم عنها و لا عما تحويه شيئا بعد، و التي سيكون إليها موئلك الدائم و عودك الأبدي. هذا مع ذكر أنه لحدود الساعة، لم يتوصل عقل إنساني أو عبقرية بشرية، لفك جميع ألغازه المخبأة و تحرير مخزون طاقاته الكامنة.
لم يعد الجسد ذلك العنصر الذي يشكو من النجاسة، أو ذلك العنصر الذي يعاني من النقص، لأنه محتقر عند مقارنته بالروح/العقل/النفس، بل أضحى ذلك المنجم الذي يحفل بكنوز المعاني الرمزية و الدلالات الإيحائية، التي تتوارى خلف حضوره المادي، الطاغي و المجسدن، فكلما تطور تاريخ الذهنية البشرية اتسعت الآفاق الدلالية للجسد، وهنا لا ينبغي اختزاله فقط في ما يستثمر لأجله في الإعلانات أو الاستثمار الرياضي أو الفني … بقدر ما أن له حمولات مرتبطة بطبيعة النظم السياسية السائدة، بل لقد أصبح أيقونة للتغيير الأعمق، كما هو في حالة الأجساد التي أصبحت تلتهب احتراقًا، للمناداة بتحقيق تغييرات في أنظمة سياسية، طالما راهنت على استراتيجية قمع الأجساد كما العقول. و هناك حركات نسوية أصبحت تتخذ من “الجسد العاري” شعارا و أيقونة للاحتجاج و التعبير عن الذات. و هذه فقط نبذة صغيرة و نظرة خاطفة، عن بعض إشكالات الجسد، و نماذج عن مآزق فهم هذا الجسد الملتبس.
“وهكذا، لم يعد الجسد يقوم على خدمة الأنا، بل أصبح يرى بعيون الحس ويسمع بآذان العقل، بعد ما كانت الهوية مرتبطة بوحدة الوعي بالذات وسيادة النفس على البدن، أصبح الجسد هو الذي “يواجه ويرد ويغزو ويدمر، بل أصبح سيد الأنا”.[21] كما جاء على لسان نيتشه.
أخيرا و ليس آخرا، وجب التنويه بأمر غاية في الأهمية، و هو أننا لم نتغيى من هذه المحاولة البسيطة، إلا إثارة الانتباه لقضية و سؤال الجسد تحديدا، و تحريض الباحثين على خوض غمار هذه التجربة الغنية المغنية، و اقتحام غمار هذه المتاهة، المتشعبة الطرق و المتقاطعة المسارات، فحتى و إن كنا قد تمردنا على قواعد البحث العلمي الرصين و المحكم، و حتى و إن كنا لم نجب على جميع الأسئلة التي طرحناها مقدما، فذلك لغاية في نفس يعقوب، و هي أن نترك هذا الباب مشرعا مفتوحا، في وجه كل باحث جاد و شغوف بأسئلة الماوراء و المابعد ! …
الإحالات والمراجع
[1] – لو بروتون دايفيد، سوسيولوجيا الجسد، ترجمة عياد أبلال و إدريس المحمدي، روافد للنشر و التوزيع، الطبعة 1/ 2014، القاهرة، مصر. ص: 7
[2] – لو بروتون دايفيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص: 8
[3] – الباحث الأنثربولوجي عياد أبلال، كتاب الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط / 1، 2019
[4] -Oscar Lewis, Les enfants de Sanchez, autobiographie d’une famille mexicaine, traduit de l’anglais par Céline Zens, Edition. Gallimard, Paris, 1963.
[5] – حكيم بناني عز العرب، الجسم والجسد والهوية الذاتية، مجلة عالم الفكر العدد 4 المجلد 37، أبريل- يونيو 2009، ص 90.
[6]– لوبروتون دافيد، سوسيولوجيا الجسد، عباد ابلال (مترجم)، مرجع سابق، ص :39 -بتصرف-
[7]– العطري عبد الرحيم، الجسد الأوليائي بين القدسي والسياسي من الفناء إلى البقاء، مقال علمي نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات و الأبحاث، بتاريخ: 29/05/2018
[8] – العلوي هشام، الجسد بين الشرق والغرب نماذج وتصورات، منشورات الزمن العدد 44، 2004،، ص: 51.
[9] – لوبرتون دافيد، انتوربولوجيا الجسد والحداثة ترجمة: محمد عرب صاصيلا مجد، المؤسسة الجامعية لدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1997، ص: 60.
[10] – لوبروتون دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سبق ذكره، ص: 148
[11] – لوبروتون دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص: 154
[12] – لوبروتون دافيد، سوسيولوجيا الجسد، سابق، ص: 158
[13]– مقال في مجلة الشرق الأوسط ،ل ميشيلا مارزانو: فلسفة الجسد كمدخل لفهم الوضع البشري. الخميس – 16 شهر ربيع الأول 1438 هـ – 15 ديسمبر 2016
[14] – الزهرة إبراهيم، الأنتروبولوجيا والأنتروبولوجيا الثقافية، وجوه الجسد، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ص: 109.
[15] – الزهرة إبراهيم، الأنتروبولوجيا والأنتروبولوجيا الثقافية، وجوه الجسد، سابق، ص: 115
[16] – عز العرب لحكيم بناني، لجسم والجسد والهوية الذاتية، مجلة عالم الفكر، عدد 4، مجلة 37، أبريل يونيو 2009، ص114. إدريس العشاب-القنيطرة- المغرب 2011-11-24
[17] – الديالمي عبد الصمد، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، دار الطليعة-بيروت، رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، 2009، ص: 14.
[18] – بودريار جان، المجتمع الاستهلاكي : دراسة في أساطير النظام الاستهلاكي وتراكيبه جان، نشر دار الفكر اللبناني، 1995 م.
[19] – مخوخ فؤاد، من نقد العقل إلى هيرمينوطيقا الرموز: بحث في فلسفة الثقافة عند إرنست كاسيرر، إصدار المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الطبعة الأولى، 12/02/2018 م.
[20] – الخطيبي حسن، نشر في جريدة الأحداث المغربية، يوم 05 – 06 – 2013.
[21] – الهامي جميل قتحي، رواية صنع في جهنم، نشر دار الخليج، الطبعة الأولى، 2019ص: 175