الثورة التربوية في الفلسفة الطبيعية عند جان جاك روسو د. علي أسعد وطفة
أ. د. علي اسعد وطفة، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق، أستاذ بجامعة الكويت – كلية التربية – منذ عام 1997حتى الآن. حاصل على دكتوراه في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان Caen (فرنسا) 1988
“كل ما يخرج من بين يدي الباري حسن وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان ” روسو
مقدمة:
في القرن الثامن عشر، وفي بداية العقد الثاني منه تحديدا، كان الفكر الإنساني على موعد خلاق مع ولادة المفكر والأديب الفرنسي المشهور جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau(1712 – 1778) فيلسوف الحرية الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بعطاءاته الفكرية التي تدفقت لتشكل منطلقا للفكر الحر في أوروبا وفي العالم قاطبة. ويعد روسو زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والفكر بلا منازع، وواحدا من أبرز عمالقة عصر التنوير و أكثر هم تأثيرا على الإطلاق، ولاسيما في مجالي التربية والفكر السياسي والاجتماعي (1).
استطاع روسو، بعبقريته الفذة، أن يولّد في النظريات التربوية روحا جديدة تتدفق إيمانا بالحرية ورفضا لكل أشكال القهر والعبودية. وتجلى إلهامه هذا في كتابيه: ” إميل” Emile الذي أحدث ثورة شاملة في بنية التصورات والعقائد التربوية في عصره وفتح الباب على مصراعيه لكل إبداع لاحق في ميدان التربية والتعليم؛ ثم في كتابه ” العقد الاجتماعي” Le Contrat social (2) الذي شكل مهمازا للثورة الفرنسية بما اشتمل عليه من أفكار وتصورات يعتقد بأنها أشعلت فتيل الثورة الفرنسية عام 1789، وشكلت برنامج عمل منهجي استوحاه الثوار في مختلف ممارساتهم السياسة والثورية. وفي هذا يقول نابليون ” لولا كتاب “العقد الاجتماعي” لما قامت للثورة الفرنسية قائمة” (3). وقد بلغ روسو بكتابيه مبلغا عظيما من الشهرة والمجد، وكيف لا وفيه يقول الفيلسوف الألماني كانط فيلسوف عصره قوله المشهور: ” إني اعتبر روسو نيوتن عصره لاكتشافه العنصر الأخلاقي بوصفه المكون الرئيس للطبيعة الإنسانية، مثلما اكتشف نيوتن المبدأ الذي ربط بين جميع قوانين الطبيعة الفيزيقية” (4). ومما لا شك فيه أن الرجل قد أحدث ثورة حقيقية في الفكر التربوي والسياسي في أوروبا في القرن الثامن عشر.
لم يسجل تاريخ الفكر الإنساني حياة أكثر غرابة وتناقضا من حياة جان جاك روسو الذي ترك سجلا إنسانيا يتدفق بالأحزان والمآسي ويفيض بكل معاني القهر وأشكال الهزيمة. كانت شخصيته نقطة تقاطع لكل التناقضات الإنسانية حيث تآلفت فيها أقدار القوة والضعف وتآزرت في أعماقها العبقرية والعاطفة والصدق والخداع والانفعالات. ومع كل هذا كان يستحوذ على بصيرة نافذة وعطف إنساني لا حدود له.
لقد شكلت عوامل البؤس والشقاء والمصائب والهزائم البوتقة التي تشكلت فيها عبقرية الرجل فاهتزت هذه العبقرية إيمانا ساحرا بلا حدود بمبادئ الحرية والسلام والأمن ودعوة مطلقة للثورة والتمرد على كل أشكال التسلط والقهر والطغيان في عصره.
يتحدر جان جاك روسو من عائلة فرنسية الأصل بروتستانتينية المذهب حطت رحالها في جنيف قادمة من فرنسا في منتصف القرن السادس عشر. ولد روسو في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712. وكان على موعد مع مصائب الدهر التي كانت ترتقب قدومه، فقد ولد مريضا ضعيفا هزيلا، ولم يمض أسبوع واحد على ولادته حتى خطفت يد القدر والدته “سوزان” وتركته يتيما تحت رحمة الآخرين. ويصف بنفسه هذه المأساة في كتابه “الاعترافات” حيث يقول: “لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي، وكانت هذه الولادة البائسة أول مصائبي”. وكانت أخلاقه متأثرة أعمق تأثر بمشاعره وانفعالاته أكثر من تأثرها بعقله.
كان والده يشتغل في صناعة الساعات وتجارتها ولكنه ترك المهنة وانتقل للعمل كمدرس للرقص، ثم تزوج سوزان والدة روسو وكانت فتاة يتيمة تعاني من ظروف قاسية، لم تفتأ أن عانت المزيد منها بعد أن تركها زوجها والد روسو لاحقاً في رحلة له إلى القسطنطينية، لكنه بعد مغامرات فاشلة عاد إليها من جديد.
بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة اضطر للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له عام 1720، وقد عهد بابنه روسو الذي كان في الثامنة من العمر إلى خاله، الذي عهد به بدوره إلى لامببرسيه Lambercier وهو أحد رجال الدين المسيحيين، لكن روسو لم يستمر هناك كثيراً وعاد إلى خاله في جنيف، حيث عاش متعطلاً طيلة ثلاث سنوات كاملة، ثم اشتغل مساعداً لكاتب إحدى المكاتب القضائية، لكنه طرد منها بسبب إهماله الشديد، وأرسل في عام 1726 ليتلقى تمارين عند أحد المصورين، وهناك كما يقول في الاعترافات أصبح شخصاً لا ضابط لسلوكه، كاذباً ولصاً. ثم ترك جنيف عام 1728 إلى آنسي Annecyفي فرنسا حيث أقام عند السيدة وارين Warens وهي من أصل سويسري واعتنق الكاثوليكية على يدها. ثم عاد إلى سويسرا وإلى مدينة جنيف لاحقا وألحقته إحدى السيدات بملجأ ديني بمدينة تورينو وهناك غير مذهبه البروتستانتي إلى الكاثوليكي، ثم بدأ يرتحل منذ عام 1729 من بلد إلى آخر.
بدأ روسو حياته الثقافية بقراءة القصص والروايات التي تركتها له والدته في مكتبتها الخاصة، ثم انتقل إلى قراءة المؤلفات الأدبية والفلسفية التي وجدها في مكتبة والده ولاسيما المؤلفات اليونانية والرومانية والفرنسية (5).
وفي عام 1930 سافر بعدها إلى إيطاليا وكان في الثامنة عشرة من عمره، وهناك في مدينة سافواي تعهدته امرأة تسمى مدام دي وارنز Madame de Warnes وهي امرأة على جانب كبير من الرقة والجمال، قدر لها أن توجه عنايتها ورعايتها المشرقة لروسو ولم تبخل عليه بعطفها وحبها الكبيرين، وقد شجعته على اعتناق الكاثوليكية التي كانت تدين بها، وقد قدر له أن يعيش معها عشر سنوات من أفضل أيام عمره تعلم خلالها اللغة اللاتينية و الموسيقى و الفلسفة و بعض العلوم الأخرى ثم اختلف مع المرأة و غادر سافواي في عام 1741 متجها إلى باريس ثم غادرها إلى ايطاليا حيث عمل كاتبا لسفير فرنسا Montaigne فيها ثم عاد إلى باريس مرة أخرى(6).
ثم انتقل إلى ليون حيث عمل مدرساً خاصاً لأولاد ما بلي Mably حاكم مدينة ليون 1740. سافر إلى باريس وتعرف على ديدرو Diderot 1743 وتقدم بمشروعه عن التسجيل الموسيقي للمجمع الفرنسي للعلوم. وفي عام 1745 تعرف إلى الآنسة تيريز لوفاسور Thérèse Levasseur وهي كما يصفها كانت خادمة غبية على جانب كبير من الخشونة، وعاش معها بقية عمره فقد كانت صديقته مدة ثلاثة وعشرين عاما ثم تزوجها أنجب منها خمسة أطفال أودعهم جميعا في دار الأيتام لأنه لا يمتلك إمكانية تربيتهم والعناية بهم (7).
خلال إقامته في باريس وبعد أن وثق علاقته بنخبة المجتمع الباريسي مثل ديدرو وفولتير، اشترك روسو وبحكم المصادفة في مسابقة علمية أدبية أقامتها جامعة ديجون Dijon عام 1749 حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها. والسؤال الذي طرحته الجامعة هو: هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى تقدم الأخلاق أم إلى فسادها؟ وبوحي من عبقريته الطبيعية وتجربته الإنسانية الفريدة أجاب روسو بأن تقدم العلوم والفنون يؤدي إلى فساد الأخلاق وتراجع القيم وليس إلى تقدم الأخلاق. ومن الطبيعي أن ترتدي إجابته طابعا أدبيا ساحرا ومقنعا في الآن الواحد، تمكن على أثرها من نيل الجائزة وقد أطلق على عمله العبقري هذا “رسالة في العلوم والفنون” Le Discours sur les sciences et les arts) (8) . ثم نال الجائزة في عام 1750، وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة أخرى عبر بحث له بعنوان “مقالة في أصل التفاوت بين البشر” Discours sur l’origine de l’inégalité عام 1755 ولم يحصد الجائزة المنشودة (9). وفي عام 1761 أنجز مؤلفه هيلواز الجديدة La Nouvelle Héloïse 10. وفي عام 1762 قدم للإنسانية كتابيه الشهيرين “العقد الاجتماعي” Le contrat social (11) و “إميل” Emile ou l’education(12). في عام 1765 أنجز كتابه الاعترافات les Confessions ثم كتابه قاموس الموسيقى Dictionnaire de musique 1767 (13) .
بالرغم من أن مؤلفات روسو لاقت الشهرة الواسعة والإقبال الشديد على قراءتها عبر الأرجاء الأوروبية، فإن كتابيه “العقد الاجتماعي” Le contrat social و”إميل” Emil قد جلبا له النقمة والسخط وغضب المؤمنين والملحدين والمفكرين. لقد حكم البرلمان الباريسي، وبعد عشرين يوماً من نشر كتاب إميل، بحرق الكتابين وسجن مؤلفهما مما اضطره إلى الهرب إلى سويسرا والتي بدورها كانت قد أصدرت حكماً مماثلاً على الكتابين. فلجأ روسو إلى إنجلترا حيث تعرف هناك على الفيلسوف الإنكليزي المعروف دافيد هيوم D.Hume ونزل ضيفاً عليه ولكنه ما لبث أن تخاصم مع هيوم وعاد إلى فرنسا ليعمل كناسخ نوتات حتى وفاته في عام 1778.
وعندما بلغ الستين من عمره ازداد بؤسه وفقره وانصرف الناس عنه حتى زوجته فكان يتمنى لنفسه الموت والخلاص. وقد تعرض في نهاية أمره لأزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته فدفن في مقبرة تبعد خمسين كيلو مترا عن باريس. وبعد أن حققت الثورة الفرنسية نجاحها المظفر نقل رفاته باحتفال طقوسي إلى البانثيون وهو مدفن عظماء الفرنسيين.
مؤثرات روسو:
لم يكن في حياة روسو المعذبة والشقية والبائسة ما يؤهله لأن يكون في مكان الصدارة بين صفوف العباقرة والمفكرين في عصره. لقد أثار روسو دهشة المفكرين في عصره إذ كيف يمكن لشخص مغلوب مقهور مستلب الإرادة مثل روسو أن يفجر عبقرية تربوية وسياسية بلغت مداها في عصره ووصلت إلى أوج عظمتها في المراحل الفكرية اللاحقة؟
كثير من النقاد والمفكرين يعتقدون أن حياة روسو المعذبة توجد في أصل العبقرية التي فجرها في عصره. هذه الحياة التي غلب عليها طابع الإثارة والتمرد والجنون وسرعة الحركة والانتقال في دائرة الزمان والمكان كان لها أكبر الأثر في تنمية عواطفه المتمردة وحسّه الإنساني النبيل الذي تفجر تمردا وثورة ورفضا منهجيا لكل أشكال الطغيان. لقد فجرت هذه الحياة المقهورة عشقا للحرية وولعا بالثورة والتمرد في أعماقه، وكانت في نهاية الأمر البوتقة التي تنامت فيها إمكانيات رؤية ثورية للوجود والحياة.
ولا يخفى على أحد عشق روسو للمطالعة ونهمه الشديد للمعرفة وجوعه المتمرد إلى الأدب والشعر العاطفة. كان شغوفا بالمعرفة لم يترك لحظة ممكنة أتاحت له أن يتبحر في كتاب أو أن يقرأ في شعر أو أن يستغرق في رواية عاطفية. وهذا الشغف الكبير بالمطالعة منذ السادسة من العمر مكّنه من امتلاك حس أدبي متميز وبراعة فنية في صوغ الخطاب المضمخ بعاطفة إنسانية فياضة وجارفة. إن من يقرأ روسو في أسلوبه الساحر يجد بأنه يتحرك ويتجاوز إمكانيات العقل ليستقر دفعة واحدة في مكنون العاطفة التي يبدأ على الأثر تدفقها بالعواطف الإنسانية النبيلة والمتمردة في آن واحد. لقد كان روسو يقرأ بنهم أسطوري كل ما يقع بين يديه من كتب الأقدمين والمحدثين، ولم يكن خافيا أنه كان يدرس الرياضيات والفلك ” وقد قيل أن هذه الحياة التي قضاها في القراءة والعمل وأن تلك الحوادث الأسطورية التي تتخللها وهذه المغامرات الدافئة والأخطار المحدقة، التي كان يكابدها ألهمته وفجرت فيه قدرة هائلة على العطاء، لأن هذه الأحداث والمفارقات كانت توقظ خياله وتفجر أحاسيسه وكان فعلها وتأثيرها يضاهي ويتجاوز تأثير دروس منظمة في كلية بليسس Plessis” ” (14).
لقد أضفت تجارب الترحال دون انقطاع على إحساسه العبقري طابعا إنسانيا وجماليا متشبعا بالخبرة والعطاء. لقد عرف دروب فرنسا وسويسرا وإيطاليا وبريطانيا في ترحال لم ينقطع، وفي تجوال لم يتوقف ولم يكن خافيا على أحد بأن تجواله هذا كان في مرات عديدة راجلا على قدميه وتلك هي رحلته الأولى إلى ليون التي قطع المسافة إليها من جنيف راجلا إن لم يكن حافيا. هذه التجارب عركته بالخبرة وعجنته بأحاسيس إنسانية متفردة تتعايش فيها لحظات الألم والحرمان مع لحظات الحنين والشوق والفرح والشعور بالزهو والانتصار.
ولا يمكن لأحد أن ينكر حصاد تواصله مع أهل الحصافة والرأي من علماء ومفكرين وأدباء وقساوسة ورجال دين وقد منحه هذا التواصل مع ثقاة المعرفة وسدنة الفكر طموحا عبقريا انطلق منه في تسجيل أمجاده الفكرية عبر أعماله المختلفة.
وهنا يجب علينا أن نتوقف عند الخصائص الشخصية والفردية في شخصية الفيلسوف، إذ يجب الاعتراف بأن روسو كان ذكيا مرهف الأحاسيس نبيلا بطبعه، ولم يكن أبدا طفلا عاديا. لقد كتب لنا يقول ” لم أكن أملك أية فكرة عن الأشياء في الوقت الذي كنت أعرف فيه كل العواطف والمشاعر، ولم أفكر في شيء تفكيرا بل أحسست كل شيء إحساسا ” (15) . وفي هذا القول إشراقة عبقرية تؤكد أن روسو كان أكثر من طفل عادي إن لم يكن قد استجمع في ذاته بذور عبقرية تأصلت في فطرته الأولى.
هذه الظروف والتجارب والخبرات والمكابدات والهزائم شكلت بوتقة نضج فيها إبداع روسو وسمت معها مواهبه الفكرية والتربوية فسجلته بين أكثر رجالات عصره عبقرية وتأثيرا وشهرة.
في مفهوم الطبيعة عند جان جاك روسو:
لا يستقيم البحث في نظرية روسو التربوية ولاسيما في التربية الطبيعية دون العودة إلى مفهوم الطبيعة لأن تحديد هذا المفهوم يشكل حجر الزاوية في فهم معمق لأبعاد واتجاهات نظرية روسو الطبيعية في التربية.
يحدد روسو ثلاثة تجليات لمفهوم الطبيعة، يأخذ الأول منها صورة الكون أو العالم الخارجي على نحو ما يتبدى لنا بصورة موضوعية، فالطبيعة وفقا لهذا التصور هي تقاطعات كونية في دائرتي الزمان والمكان. فالأرض وما عليها من بشر وشجر وحجر، والسماء وما فيها من كواكب ونجوم وأجرام كونية تشكلان الحدود القصوى لمفهوم الطبيعة بصورته الشمولية عند روسو.
ويتجلى المفهوم الثاني للطبيعة عند روسو في العالم الداخلي عند الإنسان، فغرائزنا وميولنا الأصيلة وما فطرنا عليه من قوى داخلية منحتنا إياها الطبيعة يمثل مفهوم الطبيعة الإنسانية. وهذه الطبيعة خيرة بكل ما تنطوي عليه من غرائز وميول وقوى داخلية لأنها صناعة كونية إلهية وليست من صنع الإنسان.
أما التصور الثالث للطبيعة فيتحدد بالطبيعة الاجتماعية للوجود البشري. لقد كان روسو يعتقد بأن الإنسانية كانت في العهود لغابرة تعيش حياة طبيعية سابقة للحضارة والثقافة وهي الحالة الطبيعية. كان الناس في حالتهم الطبيعية الاجتماعية كما يصورهم في كتابه ” مقالة في العلوم والفنون ” يعيشون حالة إنسانية تتميز بأصالتها وسموها وعظمتها إذ كانت حياة الناس البدائيين تخلو من الحقد والكراهية والحسد. إنها حياة آمنة يتفانى فيها الإنسان في خدمة الإنسان ويضحي فيها الفرد من أجل الآخر والجماعة. في هذه الحالة الطبيعية كان أفراد الجماعة الإنسانية يعيشون دونما إكراه اجتماعي، فالناس يأكلون ما يجمعون ويعيشون في ظل سمو أخلاقي يفيض عليهم بكل معاني التسامح والمحبة التي كانت قانونا كليا يحكم الوجود الإنساني برمته. إلا أنه ومع ظهور الملكية الخاصة للأرض، ومع تدجين الحيوان، ومع اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يقول لأخيه الإنسان هذه لي وهذا لك، بدأت مرحلة الجشع والطمع والفزع وبدأ الصراع الإنساني نحو مزيد من السيطرة والتسلط والاستبداد، وظهر الحاكم القوي الذي فرض على الجماعة قوته وبسط جناح سلطانه وتحول الإنسان إلى عبد لأخيه الإنسان فظهرت المظالم والشقاء وامتد البؤس الإنساني ليضع الناس جميعا في حالة استلاب واغتراب. فالحالة الطبيعية الاجتماعية هنا قد انتهكت وفقدت طهارتها وأصالتها ونقاء انتمائها وصفاء وجودها. لقد انتهكت الطبيعة الإنسانية ودنست طهارتها مع ولادة الثقافة والملكية وصولة الطغاة وتسلط الحكام. وهذه الأفكار الطبيعية هنا تجد مدّها في كتاب روسو مقالة في أصل التفاوت بين البشر حيث يبين لنا كيف تطورت الإنسانية من حالة الطهارة والحرية إلى حالة العبودية والقهر (16) .
ومهما يكن الأمر فالخير كامن في طبقات الطبيعة بأبعادها الثلاثة: في الكون وفي الإنسان وفي المجتمع. ومن أجل خروج الإنسان من حالته المأساوية يتوجب عليه أن يبحث عن الفردوس في العودة إلى الطبيعة في الإنسان وفي الكون وفي المجتمع. لقد جاء كتابه ” العقد الاجتماعي ” دعوة مطلقة للعودة إلى حالة الطبيعة وإحياء طقوس الحرية والمساواة التي كانت تسود المجتمعات القديمة قبل أن يلفها الفساد. وفي التربية على الإنسان كي يتحرر من ربق العبودية والقهر وينتقل إلى الفضاء الأرحب للحرية أن يعمل على بناء الإنسان وفقا لمبدأ الطبيعة وروحها.
ينطلق روسو في منظومته التربوية من المبدأ الذي يقول بأن الطبيعة الإنسانية خيرة وأن فطرة الإنسان معدن كل خير، وهو وفقا لهذه الرؤية يعارض الأفكار السائدة في عصره التي تبنى على أن الشر أصيل في طبيعة الإنسان، وهي الفكرة التي يؤسس لها الفيلسوف الإنكليزي هوبز وأغلب رجال القرن الثامن عشر كما يؤسس لها رجال الدين والكنيسة في عصره. وعلى هذا الأساس كانت التربية وفقا لمبدأ الشر الأصيل في النفس، تؤكد أهمية اقتلاع الشر من النفس الإنسانية بما توفره التربية ذاتها من أدوات التسلط والقوة والقهر لاستئصال الشر الدفين في النفس الإنسانية. وعلى خلاف هذه الرؤية البائسة للطبيعة الإنسانية، كان روسو يعتقد بأن الطبيعة خيرة وخيرها يفيض بالمطلق، ولذلك فإن التربية يجب أن تنطلق على أساس الميول الطبيعة ليكون الطفل ابن الطبيعة وربيبها. ولأن الطبيعة خيرة فإن التربية الحرة يجب أن تعمل على تأكيد النمو الحر الطليق لطبيعة الإنسان ولقواه وميوله الطبيعية.
في التربية الطبيعية عند روسو:
يشار إلى روسو بوصفه زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والتربية الحديثة دون منازع. وقد أودع أفكاره الطبيعية هذه في مختلف أعماله ومؤلفاته بدءا من كتابه الأول ” رسالة في العلوم والفنون ” مرورا بكتابه ” مقالة في أصل التفاوت بين البشر ” ثم في سفره المشهور “العقد الاجتماعي ” وأخيرا في كتابه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة ” إميل والتربية” (17) . وفي هذه الأعمال جميعها نجد نسقا متكاملا من الأفكار والاتجاهات الطبيعية في المجتمع والتربية والسياسة والفلسفة. ويعد كتاباه “إميل” و” العقد الاجتماعي“ أروع ما أهداه روسو لبني البشر (18) . وفي هذا الصدد يقول بورجولان Burgellin في كتابه المعروف “فلسفة الوجود عند روسو ” يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة” (19).
ويأخذ كتابه إميل صورة عمل أدبي وتربوي صقله إلهام ارتجال عبقري يتضوع بالأحاسيس الإنسانية النبيلة. ولم يكن هذا الكتاب أبدا مجرد تلبية لرغبة السيدة شونسو Chenonceaux من أجل تربية ابنها بل كان حركة عبقرية ألهمت الحضارة والإنسان في القرن الثامن عشر وفي الأزمنة الحديثة طرا ” (20).
يتضمن كتاب روسو في “إميل” منظومة عبقرية من الأفكار التربوية، وهي تشكل نظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعية وبمقتضى الطبيعية. ويأتي هذا الكتاب بلورة منهجية لمنظومة أعمالة السابقة التي كتبها ولاسيما مقالته في العلوم والفنون وفي اصل التفاوت بين البشر.
يفتتح روسو كتابه هذا بقوله ” كل شيء صنعه خالق البرايا حسن وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان” (21). وهو في هذا القول يضع استراتيجية نظرية يؤسس عليها نظريته الطبيعية في التربية والحياة وخلاصة هذا القول تكمن في عبارة قصيرة قوامها ” الطبيعة خيرة والإنسان يفسدها”.
فالطبيعة خيرة وخيرها يتدفق بالمطلق وعلينا ” أن نؤمن إيمانا لا مرية فيه بأن الحركات الأولى للطبيعة هي دوما رشيقة وما من فساد أصيل في النفس الإنسانية أو في القلب البشري“( (22). فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينا أن نحصن الطفل ضد الشر المستطير الذي يميد بالحياة الاجتماعية. وتأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور المجتمع وآثامه يرى روسو أن الطبيعة هي مبدأ الخير، ومنها يجب أن ننطلق إلى بناء الخير في النفوس، وتشكيل المناعة الأخلاقية في العقول، فالطبيعة هي المبتدأ والخبر في معادلة البناء الإنساني الخيّر، وفي أحضانها يجب أن ينمو الأطفال ليكونوا في منعة وامتناع عن كل ضروب الإثم والشر في التكوين الإنساني للفرد. فإميل ” ابن الطبيعة، تربية الطبيعة وفق قواعد الطبيعة لإرضاء حاجات الطبيعة” (23). ومن هنا يتدفق تمرد روسو ضد المجتمع منبع الشرور والآثام.
هذا ويعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل ولذلك يجب أن نوكل أمر تربيته إلى الطبيعة ذاتها. لأن الطبيعة تريد للطفل أن ينمو نموا حرا وأن يعمل بمقتضى تكوينه الطبيعي بوصفه طفلا.
إن أعظم ما قدمه روسو للتربية يتمثل في عبقرية الكشف عن طبيعة للطفل مفارقة لما هو معهود ومألوف في عصره وفي العصور التي سبقته. يرفض روسو المبدأ التربوي الذي ينظر إلى الطفل بوصفه راشدا صغيرا، وهو على خلاف ذلك يرى بأن الطفل صغير الراشد. فطبيعة الطفل مفارقة لطبيعة الراشد نوعيا وليس من الجانب الكمي. فالطفل يختلف في مستوى قدرته على الإدراك والنظر والتحليل اختلافا نوعيا عما نجده عند الكبار. يروي روسو قصة ذلك الطفل الذي حكيت له حكاية الإسكندر الكبير وطبيبه، لقد كان هذا الطفل معجبا إلى حد كبير بشخص الإسكندر وشجاعته، ولكن هل تعلمون أين كان يرى موطن هذه الشجاعة؟ كان يراها في قدرة الإسكندر على تجرع شرابا سيء الطعم، وفي هذا المثال يبين روسو أن إدراكات الطفل وطريقة نظرته إلى الوجود مختلفة كليا عن الراشد فالطفل لا يمتلك هذا التفتح الذهني الذي يمكنه من فهم العالم بما ينطوي عليه على النحو الذي يدركه الراشدون. ومن هذا المنطلق ينادي روسو بأهمية معرفة طبيعة الطفل على نحو ما تفرضه هذه الطبيعة من خصوصية مفارقة لطبيعة الراشدين. ولروسو فيض من القول في طبيعة الطفل ومن أشهر مقولاته في هذا الخصوص:“تعلموا كيف تتعرفون إلى أولادكم لأنكم يقينا تجهلونهم كل الجهل” ولماذا هذا الجهل لأن الكبار ينظرون إلى الصغار نظرة الراشد إلى الراشد وليس نظرة الكبير إلى الصغير. نحن ” نجهل الطفولة الجهل كله وكلما راودتنا الأفكار الخاطئة التي نملكها عنها ازداد ضلالنا“ (24). إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء الإنسان على صورة الطبيعة أي كما خلقه الله وكما يريد له أن يكون (25) .
وهنا نجد أن روسو غالبا ما يكرر أقواله المأثورة:” دعوا الطفولة تنمو في الأطفال”… ” دعوا الطبيعة تعمل وحدها زمنا أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها.”احترموا الطفولة ولا تتسرعوا أبدا بالحكم عليها خيرا كان أم شرا”(….) ” فالإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله بل وظيفة ضرورية للنمو “. وكثيرا ما كان يقول ” الطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيرة طالما تعمل وحدها وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها ” (26).
تتضمن التربية الطبيعة عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة والأطفال. وقد استلهم روسو هذا العطف على الطفولة من الحرمان العظيم والبؤس الخانق والآلام الفادحة والمدمرة التي عاناها في طفولته المعذبة. وفي حنانه هذا زفرة طفولة مقهورة وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة الأطفال والعناية بهم. يقول روسو والقول يتدفق بأعظم معاني الحنان والحب للطفولة والأطفال: ” أحبوا الطفولة، يسروا لها ألعابها ومسراتها وفطرتها المحبوبة. من منكم لا يأسف أحيانا على تلك السنين التي لا تفارق فيها الابتسامة الشفتين(…) فلم تريدون أن تحرموا هؤلاء الصغار الأبرياء من متعة فترة تكاد من قصرها تفوتهم(…) ولم تريدون أن تملؤوا بالمرارة والآلام هذه السنوات الأولى الخاطفة التي لا تعود إليكم؟ أيها الآباء، هل تعلمون الأجل الذي ينتظر فيه الموت أبناءكم؟ قلا تتهيؤوا للندامة إذ تحرمونهم من الهنيهات القليلة التي منحتهم إياها الطبيعة. متّعوهم بلذة الوجود منذ أن يصبحوا قادرين على الاستمتاع بها حتى إذا دعتهم المنية في ساعة من الساعات، لم يموتوا قبل أن يتذوقوا الحياة ويقضوا منها وطرا”( (27*.
ويمكن تحديد أهم المبادئ الأساسية لطبيعة الطفولة في التربية عند روسو على النحو التالي (28):
1- طبيعة الطفل خيرة وليس شريرة.
2- يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.
3- التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن ذلك.
4- تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر الأطفال لأن طبيعة الطفل هي التي تحدد نوع التربية الممكن.
5- العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية التربوية.
التربية الحرة:
ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة وإيمان متفجر بمبدأ الحرية الإنسانية. وتتجلى هذه التربية السلبية في رفض مطلق لكل إكراهات التسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتشع في تصوراتهم وممارساتهم الإنسانية والتربوية.
يقول روسو ” الحكمة البشرية ذاتها لا تنطوي إلا على تحكمات استعبادية، فعاداتنا لا تعدوا أن تكون إذلالا واستعبادا، وكبتا وألما فالرجل المتمدن يولد ويعيش ويموت في حالة عبودية: يلف عليه القماط يوم يولد، ويزج في الكفن يوم يموت ويغلق عليه التابوت يوم يدفن، وما دام حيا فإنه يكون مقيدا بأغلال الأنظمة المختلفة ” (29).
إنه يقترح عبر مفهوم التربية السلبية ثورة تربوية عارمة تحرر الإنسان من قيوده وتحطم أغلاله وأصفاده. نادى روسو بمبدأ التربية السلبية فالتربية الأولى التي تقدم للطفل يجب أن تكون سلبية وهي لا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة، ولكن قوامها المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل. ويعتقد روسو التربية الحقة تكون في النمو الحر الطليق لطبيعة الطفل وقواه الداخلية وميوله الفطرية. والتربية التي ينشدها ليست نفيا للتربية بل هي رفض للأساليب التربوية التقليدية السائدة التي تزج الإنسان في مدافن العبودية والإكراه. فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل أن ينمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيرة. إنها التربية التي تتيح للطفل أن ينمو روحيا وعقليا ونفسيا نموا حرا أصيلا خارج دوائر الإكراه والتسلط والقهر. فالتربية السائدة تربية إكراه تفقد الإنسان براءته وأصالته لأنها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة. ولذلك فإن التربية السلبية تشكل نفيا للعادات والأساليب التربوية السائدة في عصره. وهو يقول في معرض وصفه للتربية الإيجابية بأنها هذا النوع من التربية الذي يساعد على تكوين العقل قبل الأوان كما يساعد على تلقين الطفل واجبات الرجال. وهو لا يعني بالتربية السلبية حالة من السكون والكسل بل هي نوع من التربية الحرة التي لا تسبب الفضيلة ولكنها تحمي القلب من الرذيلة. وعلى خلاف ما هو معهود وسائد في عصره يؤكد روسو ألا شر أصيل في النفس الإنسانية ومن هذا المنطلق فإن طبيعة الطفل خيّرة بالمطلق وأن التربية الحقة تجري على نبض الإيقاع الداخلي لهذه الطبيعة.
التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نماء طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم. وكأننا بروسو في هذا التوجه يميل إلى الاستغناء عن المربي كليا، وميلا إلى أن يوكل مهمة تربية الطفل إلى الطبيعة ذاتها وأن يدع الطفل منفردا في صدامه مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها. فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف على إميل عن بعد، وهو ليس مطالبا بالتدخل إلا حينما تقتضي الضرورة القصوى تدخله. وليس على المربي أن يحتسب الزمن والوقت في عملية نماء الطفل وتربيته بل يجب عليه أن يبدد الزمن ويهدر إمكانية الإحساس به لأن إميل يختمر ويتكوّن وكلما كان نضجه في ظرف زمني هادئ مستريح في صدر الزمن كلما كان ذلك في مصلحة البناء والتكوّين والإعداد التربوي عند إميل. والقاعدة التي يعلنها روسو في هذا الصدد تقول وتشدد القول ” بأن ليست أهم قاعدة في التربية أن نربح الوقت بل أن نضيعه”. (30) وانطلاقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيرة وأن المجتمع يفسدها فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز إلى أمرين أساسيين:
- – حماية إميل من الفساد الاجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.
- – مجاراة التطور الطبيعي في الطفل لأن الطفل يمتلك شروط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.
تنطوي التربية السلبية على ثلاثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة:
– الحرية الجسدية التي توفر للطفل كل ما يحتاجه من إيقاعات النماء الجسدي الحر الذي يأخذ مساره عبر النشاطات والفعاليات والألعاب وتترك لجسده الحرية. وهنا يجب نرفض كل ما من شأنه أن يقيد حرية الطفل الجسدية. ومن هنا جاء رفض روسو للقماط وهجومه العنيف على الأساليب التربوية التي تمنع الطفل من إمكانيات الحركة والقفز والانطلاق واللعب، وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل. كان روسو يعتقد بأنه لا يمكن للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر، لأن الحرية كينونة صماء لا تقبل التجزئة والانشطار. ولا يمكن لإنسان ما أن يكون حرا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.
– الحرية العاطفية والانفعالية: إذ يتوجب إبعاد إميل عن كل ما من شأنه أن يفرض على الطفل مشاعر مقننة وعواطف جامدة معلبة أو مثلجة. فالتطور الطبيعي للطفل يكون في أن نترك لمشاعره الداخلية حرية النمو وفقا لاندفاعات إنسانية داخلية نابعة من أحاسيس الطفل وتجربته ومشاعره، وتلك هي الخصوصية التي يجب ألا تتعرض لعدوان الراشدين وتسلطهم. إن التدخل في توجيه النمو العاطفي والانفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل، وهو إكراه يتجاوز كل إكراه، لأن الروح، وهي أعمق وأقدس ما في الإنسان، يجب أن تترك حرة أصيلة رشيقة كما تفرضها الطبيعة. دعوا الأطفال يتذوقون العالم عبر إحساسهم الإنساني بعيدا عن كل أشكال التسلط والإكراه. فللطفل أن يشعر بحرية أن يحب ويكره ويغضب ويتسامح بحكم مشاعره الداخلية وعلى منوال ما تفرضه روحه الداخلية التي تفيض بالعطاء.
– الحرية العقلية: ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما لا يحتمل وما لا يستسيغ. إن الاغتراب الحقيقي يكون عندما نفرض على عالم الصغار رؤانا ومعتقداتنا وأن نعلمهم وبصورة مبكرة ما نرغب من العلوم والمعارف. إن التعليم المبكر يقض مضاجع الأطفال ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفالا. وهنا يرى روسو أن القاعدة في تعليم الأطفال وتشكيل عقولهم ليست في أن نربح الوقت ونقتنص الزمن بل تكون في هدر الزمن وتضييع الوقت بالمعنى التقليدي، فتضييع الوقت وهدره في التربية الطبيعة وفقا لمفهوم روسو هو عملية استثمار عظيمة، لأن كل لحظة تبذل في سبيل التربية تجد مردودها العظيم في التكوين الخلقي والإنساني للطفل، لأن عقل الطفل يكون في المراحل الأولى في مرحلة التكوين، وهو الخاصة الإنسانية التي تنضج متأخرة. وفي هذا يقول روسو: لو كان بيدي لجعلت الطفل لا يعرف يمينه من يساره حتى الثانية عشرة من عمره. وهو بذلك يريد للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم وأن يكون في مرحلة يمتلك فيها زمام نفسه وعقله بحيث لا يقبل إلا ما يراه وفقا لمقتضى طبيعته بأنه صحيح وخير وأصيل. إنه ينادي بألا نهتم بالإعداد العقلي للطفل حتى بعد سن الثانية عشرة، لأن فترة الطفولة هي فترة الركود العقلي وهي مرحلة كومونية لا نستطيع أن نتصور مدى أهميتها، ولذلك يجب ألا ندفع الطفل إلى التفكير أو إلى القراءة أو إلى بذل أي مجهود عقلي في هذه المرحلة.
وتعتمد التربية السلبية على قانون الجزاء الطبيعي، بحيث ندع الطفل يتحمل النتائج الطبيعية لأعماله دون تدخل أي إنسان. ويرى روسو في ذلك أن المربي يمكنه أن يقوّم أخلاق الطفل طالما يبين له أن العقوبة كانت طبيعية مثال: إذا أبطأ الطفل في ارتداء ملابسة للخروج للنزهة فاتركه في المنزل. وإذا أفرط في الأكل أتركه يعاني ألم التخمة. وباختصار دعه يتحمل النتائج الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.
وباختصار شديد التربية السلبية لا تعني نفيا للتربية، بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة، وإذا كانت التربية الإيجابية تسعى إلى تكوين النفس قبل الأوان فإن التربية السلبية تسعى إلى تعبيد طريق المعرفة وجعل أدواتها جاهزة قبل إعطاء المعرفة. إنها التربية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين نمو العضوية والنفس والعقل عند الأطفال. وهي تنطلق من مبدأ النمو الذاتي الحرّ لطبيعة الطفل. إنها لا تعلم الفضيلة بل تجنيب القلب من الوقوع في الرذيلة وهي، في جماع عبارة واحدة، النمو الحر لطبيعة الطفل وميوله الطبيعية.
من الميلاد إلى الخامسة:
يؤكد روسو على أهمية الأبوين كمربيين طبيعيين للطفل، فالأبوان هما ال أكثر قدرة على أن يمنحا الطفل الحنان الضروري لنموه إنسانيا وأخلاقيا على نحو طبيعي. فالأب هو المعلم الطبيعي والأم هي حاضنته. ويعلي روسو هنا من شأن الأم على نحو خاص في العملية التربوية، وكان يلح دائما على دور الأم بقوله “إذا أردتم أن تعيدوا كل إنسان إلى واجباته الأولى عليكم البدء بالأمهات وستعجبون لما تحدثونه من تغيرات” (31).
في هذه المرحلة يجب على الأبوين رفض جميع الأساليب التربوية التقليدية السائدة واعتماد المنهج الطبيعي في التربية. وتكون البداية بإرضاع الطفل إرضاعا طبيعيا من صدر الأم، ويحذر من تغذية الطفل من غير صدر أمه كما كان سائدا في ذلك العصر. ويرفض روسو بمطلق الرفض أن يعهد بالأطفال إلى مربيات ومرضعات، ويهيب بالأمهات أن تقوم بواجبات الأمومة لأن غير ذلك يؤدي إلى مخاطر مذهلة يتصدع لها عقل الطفل وقلبه. وكان في هذا الصدد يرفض أن يغسل الطفل بالخمرة والنبيذ ويرفض هذا على مبدأ أن الخمرة شراب متخمر وبالتالي فإن الطبيعة لا تنتج ما هو متخمر.
يرفض روسو قطعيا وضع الطفل في القماط المعهود أو في ” المهاد” لأن المهاد يمنع عليه الحركة وتدفق الدماء ويميت قلبه الحر، ويحذر من استخدام هذه الطريقة كما يحذر من آثارها المدمرة للطفل جسديا ونفسيا. ويؤكد أهمية اللعب بمستوياته المختلفة، حيث يأخذ اللعب مستويات تتدرج وفقا لعمر الطفل في مدى وحدود هذه الفئة أي من الميلاد إلى الخامسة من العمر. فإميل في هذه المرحلة يجب أن يتكوّن جسديا على محك الألعاب الرياضية. فالرياضة المضمخة باللهو والتسلية واللعب هي الرياضة التي تناسب نمو إميل جسدا وعقلا. وهو يعتقد في هذا الصدد بأن جميع الرغبات الشهوانية تجد لها مسكنا في الأجسام الضعيفة، وكل ضعف يولد ضعفا، والطفل لا يكون سيء الخلق إلا لأنه ضعيف فإذا قويته تحسن وتم له النماء الأخلاقي والجسدي في آن واحد. يرفض روسو تلقين إميل فيضا من الكلمات والمفردات اللغوية ويريد لإميل هذا أن يحقق تناسقا بين نموه اللغوي ونموه الفكري. وباختصار فإن روسو يؤكد في هذه المرحلة العمرية على:
- – عدم استخدام القماط.
- – دعوة إلى الرضاعة الطبيعية.
- – أن تكون التربية عملية نمو داخلية عضوية.
- – الابتعاد عن الأوامر والنواهي.
- – التأكيد على التربية الجسدية.
التربية من الخامسة إلى الثانية عشرة:
يركز روسو على أهمية هذه المرحلة ويعتقد بأنها من أخطر المراحل التربوية في حياة الإنسان. وهو يؤسس للتربية في هذه المرحلة وفقا لمبادئ ثلاثة:
1- على إميل أن يستمد معلوماته وخبراته عن طريق الحواس والتجربة والاحتكاك المباشر مع الطبيعة.
2- يجب على التربية في هذه المرحلة أن تكون تربية سلبية حيث يترك الطفل في غفوة أشبه بالسبات بعيدا عن مختلف التأثيرات الخارجية. وهنا يجب على المربي عدم التدخل إلا عندما تقتضي الضرورة. لأن إميل يتكوّن تكوّنا طبيعيا في هذه المرحلة وحري بنا أن نجعل الطبيعة تفعل فعلها وتنهض بواجبها دون تدخل المربين والكبار.
3- التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي، فعندما يسقط إميل يتألم، وعندما يتخم يعاني من الألم، وعندما يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام، وعندما يضع يده على مكان لاهب يشعر بألم الحرارة ووخزها، وفي كل هذا يجب أن يشعر الطفل بأن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا ينبع من طبيعة الأشياء ذاتها وأن هذا العقاب لم يكن انتقاما أو إكراها يمارسه الكبار. وباختصار أيضا يؤكد روسو على المبادئ التالية في هذه المرحلة:
- – التربية السلبية في مختلف مستويات هذه المرحلة.
- – التربية الأخلاقية عن طريق النتائج الطبيعية.
- – تدريب الحواس لا تدريب العقل.
- – التعلم بالأشياء والخبرة والتجربة.
- – لا حاجة إلى القراءة والكتابة.
التربية من سن الثانية عشر إلى الخامسة عشرة
في هذه المرحلة تبدأ عملية تعليم إميل، لأن مرحلة الغفوة والسبات قد انتهت وقد اكتملت لإميل أسباب التعلم بعد أن نضجت ملكاته الطبيعية وبعد أن خمرته الطبيعة وسوته وهيأته لتلقي المعرفة الإنسانية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير ثقافية. لقد آن الأوان لتعليم إميل وتزوده بالمعرفة والمعلومات والمعارف. وفي هذه الفترة كما يقول روسو تزداد فيها قوة الفرد على ما يحتاج إليه.
ومع أهمية هذه المرحلة وضرورة التعلم فيها فإن روسو يرسم سبل التعلم والاكتساب ويحدد مساره وطريقته. فالتعلم والاكتساب يجب أن يتم عن طريق التشويق وأن يتساوق مع الرغبة في التعلم وحب الاستطلاع، وهنا يجب أن يكون ميل إميل وتعطشه للعلم والمعرفة ناجما عن رغبات طبيعية أصيلة في أعماقه.
ومن حيث طبيعة المعرفة التي يجب أن نزودها للطفل يجب أن تكون متوافقة مع اهتمامات الطفل ولاسيما هذه التي تدفعنا غرائزنا إلى تتبعها والتي تتضح أهميتها وفائدتها العملية بالنسبة لإميل.
على الطفل كما يؤكد روسو وينصح أن يقرأ قصة “روبنسون كروزو” لأن هذه القصة تؤكد أهمية التعلم وفهم الحياة وفقا لقوانين الطبيعة حيث تبرز أهمية الاعتماد على النفس فيها.
ويجب على إميل أن يتعلم حرفة بحد ذاتها، وذلك ليس من أجل الكسب، بل من أجل غرض أسمى من هذا، وهو التغلب على العقائد الفاسدة التي تحط من قدر هذه الحرفة؛ وعندما نؤكد من جديد على أهمية التجربة الذاتية، ويكون التعليم مناسبا لحاجات إميل وميوله، فإن إميل سيصبح شخصا مجدا هادئا صبورا مملوءا بالشجاعة والثقة، وقادرا على أداء وظيفته الحيوية والاجتماعية بصورة تجعله أكثر قدرة على التكيف والاستمتاع بحياته وتحقيق السعادة الطبيعية المنشودة.
وفيما يتعلق بالمواد الدراسية يتوجب علينا أن نعلّم إميل العلوم الطبيعية مثل الفلك والجغرافيا وخير وسيلة لتعلم الخرائط هي الأسفار والتنقل والترحال. وهو يرفض تعليم إميل النحو واللغات القديمة والتاريخ لأنه يريد لإميل أن يعيش في عزلة عن المجتمع وفي دائرة الطبيعة تحديدا.
وفي منهج التعليم، يرفض روسو مبدأ الخطب الرنانة المصقعة، ومبدأ النصح والإرشاد، ويؤكد على الأهمية الكبرى للمارسة والتجربة ويقول ” لنحوّل إحساساتنا إلى أفكار، وعلينا أن نتجنب القفز مباشرة من عالم المحسوس إلى العالم المجرد، ولنتحرك وبأناة وروّية من فكرة محسوسة إلى فكرة محسوسة، لنتعلم عن طريق الأشياء، وعلينا أن نبتعد عن معالجة الأشياء بالرمز طالما نستطيع أن نرصدها أشياء في دائرة المكان والزمان“.
من سن الخامسة عشرة إلى العشرين
في هذه المرحلة تنمو استعدادات إميل وقدراته على التكيف مع الآخرين والحياة الاجتماعية، وقد آن الأوان ليصبح إميل كائنا اجتماعيا فاعلا ومشاركا في دائرة الحياة التي تنتظره في المجتمع. ومن أجل هذه الغاية يتوجب علينا أن ندربه على العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين. في هذه المرحلة يكون إميل قد اكتمل نضجه جسديا وحسيا وعقليا، وقد آن الأوان لكي يتشكل عاطفيا وروحيا.
فالتربية في المراحل السابقة كانت تربية ذاتية تهدف إلى بناء الجسد والنفس، أما الآن فيجب إعداد إميل من أجل الحياة الاجتماعية، وعلينا أن ندربه على امتلاك شروط العلاقة الاجتماعية وفقا للمعايير الاجتماعية التي يفرضها تكيف الأنا مع الآخر.
تسعى التربية في هذه المرحلة إلى تنمية الوجدان وبناء الأخلاق الاجتماعية، حيث تنتهي في هذه المرحلة فترة التعليم أو التربية العادية أو السلبية كما يحلو لروسو أن يسميها. وهنا يؤكد روسو في هذه المرحلة على التربية الدينية والأخلاقية. ولكنه يرفض الأساليب القديمة في تشكيل إميل أخلاقيا ولاسيما أخلاق النصح والإرشاد حيث يجب على إميل أن يكتسب عمقه الأخلاقي عن طريق الممارسة ومحاكاة أبطال التاريخ.
وفي هذه المرحلة أيضا تبدأ إمكانية بناء صلة دينية بين إميل وربه، وتتوجب تربيته الدينية على قيم الحق والخير والجمال. فالطفل يمتلك القدرة في هذه المرحلة على فهم أمور الدين ويمكنه أيضا أن يدرس البلاغة والتاريخ والمسرح لأن هذه المرحلة تمكنه من تذوق الفن والاستمتاع بالقراءة والمطالعة.
فإميل يمتلك في هذا العمر رصيدا محدودا من المعرفة ولكنه يمتلك هذه المعرفة امتلاكا حقيقيا والمعرفة التي يمتلكها معرفة نابعة من صميم الأشياء وراسخة في قلب إميل وعقله، وهناك أشياء كثيرة أيضا مازال يحتاج إلى معرفتها وهناك أشياء لا يعرفها ولا يحتاج إلى معرفتها ولكنه يمتلك القدرة الكلية على معرفة كل الأشياء.
تربية المرأة أو صوفيا:
يكرس روسو الجزء الخامس من كتابة إميل لتربية المرأة التي أطلق عليها اسم(صوفي)، وهي تظهر مباشرة في الكتاب دون تمهيد يذكر. يؤكد روسو في هذا الجزء على أهمية التربية الجسدية لصوفيا، ويرى بأنه يتوجب عليها أيضا أن تتعلم فن الطهي والتطريز والموسيقى والعناية بالطفل وعدم الاهتمام بالعلوم. وهنا نجد أن روسو كان كلاسيكيا وعدوانيا في نظرته إلى المرأة، فوظيفة المرأة هي إسعاد الرجل وإرضائه والقيام بتربية الأطفال. وهو يقف موقفا سلبيا من المرأة المثقفة التي قد تكون وبالا على زوجها وأطفالها وعائلتها. وكثيرا ما يؤخذ على روسو هذا الموقف المتوحش من المرأة، ويؤخذ عليه أيضا أن آراءه متطرفة وعنصرية وغير إنسانية فيما يتعلق بدور المرأة ووضعها الإنساني والاجتماعي. ومن أوجه الغرابة في هذا الموقف أن روسو كان في سيرة حياته كلها يدين للمرأة التي كانت عونه في مسيرته الإبداعية والفكرية والحياتية. فعبقرية روسو وحياته كانت وليدة عناية أنثوية خالصة، ولا يخفى على من يقرأ سيرة حياته أنه كان مدينا للمرأة الأم والصديقة والزوجة والعمة التي كثيرا ما كان ينهمر دمعه على عمته وعلى عدة نساء كان لهن دورا عظيما في حياته، فلمسة الحنان الوحيدة في حياته كانت هي لمسة المرأة. فصوفيا في هذا الكتاب لا تمتلك إلا على فضائل ثانوية وهي الفضائل التي تتصل بالحياة الزوجية والأسرية وهي كما يصورها روسو شخص ناقص يحتل مرتبة دنيا في عالم إميل وحياته.
الخاتمة
سجل روسو نفسه في تاريخ الفكر مربيا ومعلما وفيلسوفا وأديبا وثائرا، وكانت سيرته الحياتية والفكرية من أغرب السير التاريخية في تاريخ الفكر إن لم تكن أغربها على الإطلاق. ومن أوجه الغرابة والإدهاش في هذه السيرة أننا مع روسو نجد أنفسنا أمام عبقرية شمخت ونهضت على أعمدة القهر وعلى ثوابت الألم والهزيمة. وعلى هذا الأساس شيّد مملكته الفكرية الجبارة الفيّاضة بكل المعاني الإنسانية النبيلة والخلاقة. لقد أحدث انقلابا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده. ولا غرابة في ذلك فهو مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة.
وما يدهش أن علم النفس الحديث والنظريات التربوية الحديثة قد استجابت لاندفاعات روسو العبقرية الجامحة المتمردة. ولم تستطع الانتقادات التي وجهها العلماء والمفكرون والكتاب لنظريته التربوية والاجتماعية أن تنال من شموخ هذه النظرية بل زادتها شموخا وتمردا. صحيح أن مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة ولكن جوهرها الإنساني مازال يحلق في الأجواء الشامخة.
إن ما اكتشفه روسو بفطرته وعواطفه ونبيل إحساسه الإنساني وعبقريته الأدبية كان كشفا عن مناطق مظلمة في حياة الإنسانية فأراد أن يطرد منها العتمة ويحررها من الجمود عبر شطحات عقل ثائر متمرد. وما حمله روسو إلى البشرية عبر نظريته التربوية تارة والاجتماعية تارة أخرى لا يضاهيه عطاء. لأنه وباختصار جاء ينتصر للأطفال والضعفاء والمظلومين والمحرومين والمقهورين، جاء ليحرر الطفل من ظلمات القرون الوسطى لأن الطفل في نظريته رمز البراءة والعطاء بل هو هبة الله ولذلك فإن سعادة الأطفال يجب أن تكون هدف التربية بالمطلق.
وإذا كان عصره لم ينصفه، إذ عاش حالة التشرد والقهر مظلوما مهزوما في وطنه، فإن روسو اليوم يمثل رمزا من رموز الحضارة الإنسانية التي تفتخر به فرنسا ثقافة وحضارة، وهو الذي هجرته الأيام فعاش متوحدا حزينا مقهورا مغلوبا مطاردا من قبل رجال الأمن والسلطات في عصره. ومن من المفكرين في القرن التاسع عشر ولاحقا في القرن العشرين من لا يدين لروسو الأب الروحي للتربية الحديثة. فالتاريخ يعلمنا بأن جميع المبدعين من بعده في مجال التربية والفكر الاجتماعي يدينون له ويأخذون عنه ويتمثلون جوهر رؤيته للتربية والإنسان.
ليس غريبا أن يكون كتابه العقد الاجتماعي طفرة فكرية وجهت عمل الثورة في فرنسا وهي أعظم ثورة تشهدها أوربا ضد القهر والاستبداد والإرهاب. وليس غريبا أيضا أن يحدث ثورة تأخذ طابع الاستمرار في مجال التربية. لقد وضع روسو حجر الزاوية لانقلاب فكري تربوي أتى على كل التراث القديم في مجال التربية وأحدث انقلابا كوبرنيكيا في المفاهيم والرؤى والتصورات. وستبقى نظريته في العقد الاجتماعي ونظريته في التربية أحجارا كريمة براقة في عقد الفكر الإنساني الحر إلى الأبد.
هوامش وحواشي :
1- انظر : علي وطفة ، خالد الرميضي ، التربية قبل المدرسية، تصورات علمية وعقائد نقدية، مكتبة الطالب ، الكويت ، 2004، الفصل السادس ، صص 155-179.
2- انظر: جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.
3- بو منرو، المرجع في تاريخ التربية، ترجمة صالح عبد العزيز و حامد عبد القادر، مكتبة النهضة المصرية، 1949، الجزء الثاني، ص 229.
4- السيد محمد بدوي، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 94.
5- Hubert Hannoun, Anthologie des penseurs de l’éducation, P.U.F., Paris, 1995,pp158-177.
6- شبل بدران، الاتجاهات الحديثة في تربية الطفل ما قبل المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2000، ص 117.
7- محمد الفرحان، الخطاب الفلسفي التربوي الغربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1999، ص 118
8- J.-J. ROUSSEAU, Discours sur les sciences et les arts, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, in Œuvres complètes, t. III, coll. La Pléiade, 1964.
9- J.-J. ROUSSEAU, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes(1754), préf. B. de Jouvenel, Gallimard, 1965. Du contrat social, introd. et notes J. Halbwachs, Aubier-Montaigne, Paris, 1960.
10- J.-J. ROUSSEAU, La Nouvelle Héloïse, Amsterdam, 1761, rééd. in Œuvres complètes, t. II, B. Gagnebin et M. Raymond éd., coll. La Pléiade, Gallimard, 1961.
11- Rousseau, J.-J. Du contrat social. Flammarion. 1ère édition, Paris,1762.
12- جان جاك روسو، إميل والتربية، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.
13- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1984، ص 377.
14- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1984، ص 377.
15- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، المرجع سابق، ص 376.
16-
16- جان جاك روسو، أصل التفاوت بين البشر، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.
17- انظر: جان جاك روسو، إميل والتربية، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.
18- KAHN P., Emile et les Lumières, dans L’éducation, approches philosophiques, PUF, Paris, 1990.
19 P. BURGELIN, La Philosophie de l’existence de Jean-Jacques Rousseau, Paris, 1952, 2e éd. 1973, rééd. 1978.
20- فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، جامعة دمشق، مطبعة خال بن الوليد، دمشق 1982، ص 61.
21- جان جاك روسو، أميل أو التربية، ترجمة عادل زعيتر، م، دار المعارف، القاهرة، 1956، ص 37.
22- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق، ص 378.
23- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق، ص 378.
24- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق، ص 397.
25- راتب عبود، نظريات التربية في عصر التنوير الفرنسي، ترجمة عبد الله المجيدل، دار معد النشر، 1996، ص37.
26- فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مرجع سابق، ص 74.
27- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق، ص 384.
28- محمد كمال يوسف عالية وآخرون، الفكر التربوي: أصوله تطوره اتجاهاته المعاصرة، الهيئة العامة للتعليم التطبيقي، كلية التربية، الكويت، 1985، ص 105.
29- بول منرو، المرجع في تاريخ التربية، ترجمة صالح عبد العزيز و حامد عبد القادر، مكتبة النهضة المصرية، 1949، الجزء الثاني، ص 239.
30- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق ص383.
31- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، مرجع سابق، ص 381