التوجه الوجودي للتأويلية: مارتن هيدغر – محمد بركان

الكاتب: محمد بركان.
قطعت التأويلية محطات متعددة، بدأ من بدايتها كمعنى إلى تبلورها كمفهوم وكمبحث فلسفي، ففي الزمن القريب أي في القرن الثامن عشر عرفت التأويلية كفن للتفسير L’art de l’interpretation، وبعد ذلك تحولت لدراسة العلوم الإنسانية ( فلهلم ديلتاي )، لكن مع القرن العشرين سوف تصبح التأويلية شيء اخر، بحيث سوف تصبح مبحثا فلسفيا له مميزاته ومناهجه التأويلية.
عرفت التأويلية منحى مغاير بدأ من الألماني مارتن هيدغر؛ أي قد أصبحت مصطلح مستقل، له خصائصه، وبذلك تغيرت موضوعاتها وطرقها الإشتغالية، حيث انتقلت التأويلية مع هيدغر من مرتكز يُعتمد للفهم وتفسير النصوص ـ بشكل عام ـ، إلى تأويل الوجود نفسه، لكي يظهر مع هيدغر سؤال اعتبره هو المنطلق الأساس للمنعطف التأويلي للوجود؛ وهو التساؤل عن معنى الوجود.

_التأويلية الواقعانية:

تشير هذه الرؤية إلى أن موضوع الفسفة من الدرجة الأولى؛ هو الوجود الإنساني.
فقد تحددت التأويلية سابقا مع إدموند هوسرل بمعنى القصدية ( غائية المعنى)، نئت الواقعانية عند هيدغر إلى صورة الكينونة ( الدزينDasein )، كي تصبح التأويلية عند هيدغر بمثابة هجوم كلي عن الواقعية، من أجل تذكيرها بنفسها؛ أي أنها تحدث تصدعا في الفهم الوجودي، وهذا ما يمثل قدرة التأويلية (ص37)، فيصبح كل ” دزين ” منتبه إلى كينونته، ويبقى دائم التفقد على أن لا يدخل في ” الإغتراب ” الوجودي، هنى تظهر المسافة الكبيرة؛ بين التصور الكلاسيكي للتأويلية، وبين التصور الجديد لها، الذي سوف يتبلور بدأ من هدغر، فالتأويلية بحسب هذا الأخير؛ لم تعد مرتبطة بالمعطى النصي فقط، بل أصبحت تأخد معنى وتوجه آخر؛ هو التوجه الأنطلوجي Ontologie ، بحيث تسعى التأويلية على أن تجعل هذا الوجود منتبها لنفسه، على أن يدخل في إغتراب يتيه فيه. لقد جعل هيدغر من المنعطف التأويلي في علاقة تامة مع الوجود، من أجل تحليله وتفكيك رموزه التي تخفي معنى الوجود، ولكل تفسير أو تأويل يحدث غفلة (التأويل النقدي). إذن قوة التأويل عند الرجل لا تقل ميزة عن وظيفة الإلاه (هيرمس)، فكما أن هذا الأخير يحدث تصدع؛ من خلال النبأ العظيم الذي يبلغ به ويكشف عنه، فحتى التأويلية هنا تأخد منحى زعزعة الوجود وإحدات تصدع في الواقع.
إذن الأساس من التأويلية الهيدغرية؛ ليس هو ابتكار وإبداع أخلاق جديدة أو شيء من هذا القبيل، بل هو الكشف عن أصالة الوجود، عن طريق تفكيكه والكشف عن معناه الأصلي الخفي.

-وضعية التأويلية في الكينونة والزمان:

أصدر هيدغر مؤلف ” الكينونة والزمان ” سنة 1927، وفيه بلور تصوره التأويلي لفهم معنى الوجود، بحيث جعل من الفلسفة أنطولوجيا_ البحث عن معنى الكينونة.
إذن فهيدغر أراد أن يذكر الفلسفة بسؤالها “الأصح”؛ الذي يتمثل في معنى الوجود، والكشف عن مكنونه الداخلي، وبما أن أصالة الكينونة قد سقطت في النسيان، فقد جائت التأويلية كالصاعقة من أجل التنبيه؛ إلى السؤال الأصح والممكن، هذا ما يجعل من الدعوة الهايدغرية في التأويل، أسلوب جديد؛ يهدف إلى تفكيك الوجود نفسه وتأويله وحل شفراته، ومن أجل ذلك استعمل المنهج الفينومونولوجيLa méthode phénoménologie؛ هذا المنهج الذي استقاه من أستاذه إدموندة هوسرل Edmund Hussrel، حيث لا يكفي ما يقال عن الظواهر، بل لابد من مسوغات مباشرة، من خلال التحليل الظواهر ( علاقة جدلية بين الوعي والواقع).
سعى هيدغر إلى الإجابة عن السؤال؛ كيف للمنهج الفينومونولوجي أن يظهر لنا ما أخفاه الوجود عن نفسه؟ يجيب عن طريق الإرشاد؛ الإرشاد والدعوة والمناشدة بالتأويلية، بحيث يحل معنى الوجود، عن طريق الكشف عن نفسه، من خلال التأويل الفينومونولوجي. إذن ما إن يحصل هناك اغتراب، حتى تحل مهمة الهيرمينوطيقا herméneutiques ؛ من أجل الكشف عن معنى الوجود، فتضر كالصاعقة لتحليل الوجود وإخرج الذات من اغترابها؛ هذه هي قوة الهيرمينوطيقا عند هيدغر.
تجدر الأهمية من الفعل التأويلي عن طريق استعمال المنهج الفينومونولوجي؛ من خلال الوصف الدقيق لظواهر الوجود، وهذا هو التفسير الذي يراد أن يؤول.
يتسم المنهج الفينومونولوجي في التأويل بشئين: أ) بيان وكشف عن المعنى الأصيل للكينونة. ب) بيان البنية الأساسية للكينونة. ولهذا اللأمر كان لابد من شرح معنى الكينونة والزمان؛ من أجل أن يكون هناك مكنة للتأويل ، فهذه هي الطريقة والحاجة إلى الفلسفة.
يبرز جان غروندان أن الرمزية الأولى من العلاقة بين الفلسفة والتأويل؛ تظهر في ما يسمى بأنطلوجيا الظهراتية، وهذا هو كل ما سعى إليه هيدغر. إذن لا بد من الإنطلاق من كشف توضحي، يبز فهم سريع للكينونة؛ وكان هذا هو المسعى الأساسي في التأويل، وهو مسعى فلسفي من الدرجة الأولى.

-تأويلية فهم جديد:

أصبح مع هيدغر تبلور وعد جديد من قبل الهيرمينوطيقا؛ بحيث أنها وعدت الكينونة بأن تصل إلى معناها ـ معنى الكينونة ـ الحقيقي، هذا ما سماه هيدغر ” بالوجودانيات ” existentiaux، وذلك مع الإقرار بأن الوجود مسكون بفهم الذات (ص45).
أما عن مسئلة ((الفهم)) فإن هيدغر يقطع مع السابق؛ فقد أصبح الفهم لذيه هو ما نتفاهم عنه ( في البداية نتفاهم عن شيء..)، وليس ما يرتبط بالتعقل أو مهارات معينة…، وقد يتضح الفهم من خلال ما يطلق عليه التفسير التأويلي بالألمانية Auslegung، فيصبح الـتأويل عتد الرجل هو: شرح الفهم، إذ أن ما يجدر بنا توضيحه أولا؛ ليس هو معنى النص أو القصد من المؤلف، بل هو القصد الذي يسكن الوجود بالذات، فالتأويلية هي توضيح نقدي يعيد شرح وتحليل الظواهر الوجودية.
مع هذا الحال تصبح التأويلية، التي حددها هيدغر في صيغة نقدية؛ حيث أنها ترنو نحو نقد لفهم سابق للشيء المؤول، أي يوجد فهم ثم يراد تأويله، ما أطلق عليه هيدغر ” التأويل الشارح ” الذي يأخد بعد ثلاتي( مكسب سابق، رؤية مسبقة، تصور سابق ).
يستحيل النظر إلى الرؤية الهيدغرية؛ في إعادت بلورت تأويل جديد، يقوم على تأويل الوجود عينه، من غير الإشارة إلى البيئة الثافية التي وجد فيها وتبلور فيها فكر الرجل، حيث أنه تأثر كثيرا بأهمية التقنية والتكنولوجيا ونتائج الحركات التنويرة إبان القرن التامن والتاسع عشر. كل ذلك أدى بهيدغر إلى الخوض في مشكلة الوجود، بحيث يرى بأن تاريخ الفلسفة الغربية هو تاريخ الميتافيزيقة (مدخل إلى الميتافيزيقا لهيدغر)، وسبب ذلك هو عدم طرح السؤال بالطريقة الصحيحة؛ فكان يطرح السؤال بما هو الوجود؟ وهذا يستدعي إلى حضور الوجود، لكن هل يمكن ذلك؟، هذا ما أدى بالنزوع نحو الميتافيزيقا، لذلك رأى هيدغر بأن السؤال الصحيح هو: ما معنى الوجود ؟ sens de l’etre ، وهو ما يدعو إلى الهيرمينوطيقا؛ من أجل إعادة صياغة معرفة حول المعنى الأصيل للكينونة، لكن هذه الدعوى ينشأ عنها سؤال آخر هو: من أين تأتي هذه المعاني للفهم؟.
إذن ما يجعل هيدغر ينفصل عن التأويل الكلاسيكي، هو بغية تجاوز الرؤى التأويلية المرتبطة بالنص فقط، حيث ينفد داخل التأويلة؛ إلى النظر في الوجود لمحاولة الكشف عن أصالته ومعناه.

-دورة الفهم:

الدافع الأساسي للفهم، هو القلق الوجودي، أي أن أهمية التأويل الأولية؛ ليست هي التخلي عن الأحكام السابقة، بقدر ما أنها علاقة استكمال، هذا مع ضرورة إخضاع التأويل نفسه إلى النقد الذاتي في كل مرة، وحسب جان غروندان هذه هي الغاية الأسمى لهيدغر من كتاب ( الكينونة والزمان).

-تأويلية هيدغر الأخيرة:

في فلسفته الأخيرة حول الهيرميننوطيقا، فهيدغر أراد أن يجعل التأويل أكثر رادكالية في فهم معنى الوجود، ونقد التصور السابق عن معنى الوجود.
إذن يعد هيدغر أن مشكلة النسيان؛ هي ما تؤدي إلى الوجود الغير الأصيل، وكذلك يبرز في نقده للميتافيزيقا، أن السبب في نسيان الكينونة والتحاشي عن معناها الأصلي؛ هو الذي تسببت فيه “الماورائيات “. هذا ما أودى بالرجل إلى الإهتمام الكبير باللغة، فلربما أن اللغة النثرية أصبحت عاجزة عن فهم معنى الوجود ( الطريق إلى اللغة لهيدغر)، فاهتم كثيرا بالشعر وأعجب بلغته، معتبرا بأن اللغة تحمل في طياتها حمولة ثقافية ومعرفية تميزها وتميز فهمها عن اللغاة الأخرى، لذى قد جعل اللغة بيت الكينونة.

المصادر والمراجع المعتمدة:

  • Hermeneutique Jean Grandin.
  • مدخل إلى الميتافيزيقا لمارتن هيدغر.

إغلاق