التصوف الفلسفي – بقلم: زيـاد حـمـادي
زياد حمادي طالب باحث – المدرسة العليا للأساتذة – الرباط – المغرب
” لقد شعر عظماء الرجال من الفلاسفة بالحاجة إلى العلم والتصوف معا “{1}
تـقـديـــم:
لم يسفك دم الناس ولم يقتتلوا في تاريخ الإسلام بقدر ما اختلفوا وتقاتلوا حول الدين وما يدور في فلكه ، حتى أصبح الدم أرخص من بيض الحمام ، وما هذا الدم سوى دم المفكرين والفلاسفة والمتصوفة وسائر العلماء ، الذين أرادوا إصلاح حال العباد , وإخراجهم من الظلمات إلى النور سيرا على منهاج الرسول ، و منهم من ترك العباد وملاهيهم ، وتوجه للمعبود مسترشدا بنوره وسط الظلام الدامس السائد في الدنيا ، هذا الظلام المغشي على أبصارنا نحن العامة بلغة المتصوفة ؛ ليس سهلا أو يسيرا على المرء أن يكتب عن التصوف والمتصوفة ، قوم عارفين بالله بالغين حكمة لا يبوحون بما علموه وخبروه ، ولا يرضون مشاركة اكسير الثمالة ، فهم أبعد ما يكون عن فعل الخيانة ، فاستساغوا البقاء في قلعتهم بجواره تعالى ، ألا فدع العامة خارجها لا يعملون ما داخلها ، في هذا الصدد قال ابن عربي : “اعلم وفقك الله، تعالى أن علم هذه المشاهدة القدسية التي أودعتها هذه الرسالة الفريدة. وفيها من العلوم التي يجب سترها ولا يجوز كشفها إلا لأربابها:
جئتماني لتعلما ســر سعــدي تجداني بسر سعدي شحيحا
فهذه الأسرار أجرى الله العادة عند أهل هذه الطريق ألا يهبها إلا للأمناء:
ومستخبر عن سر ليلى رددته بعمياء من ليلى بغير يقين
يــقــولــون خــبرنا فـأنت أمينهـا وما أنا إن أخبرتهم بأمين ” {2}
ما سنعرض له في هاته الورقة سوى “محاولة” نسلط فيها الضوء على التصوف في جلبابه الفلسفي، مركزين على عدة نقاط ارتأينا أنها تستحق الذكر وأغفلنا بعضها لضيق المقام وغنى الموضوع، وهي كالتالي:
التصوف الفلسفي:
· ما التصوف الفلسفي: تعريفه، مصادره، الفرق بينه وبين التصوف السني.
· اللغة الصوفية: وعاء الفكر.
-التصوف الفلسفي:
– في مفهوم التصوف
قبل النظر في هذا اللون من التصوف الذي سنتناوله في هاته الورقة، يلح علينا مفهوم “التصوف” لنظر في أصله الإيتيمولوجي بالشقين اللغوي/الاصطلاحي، كخطوة منهجية أولية مهمة لاستغوار هذا الموضوع الضارب في القدم، الزاهد في الدنيا.
اختلفت الآراء وتباينت المواقف حول “التصوف”، فصعب على الباحثين ومؤرخي التصوف القبض على تعريف “جامع مانع” نستطيع من خلاله التقرب إلى هاته التجربة ولمسها ولو لغويا/أدبيا؛ جاء في معاجم اللغة العربية “تصوف” تحت معنى مادة “صوف” المألوفة والصوف هو الذي يغطي جلد الحيوان , ورد في لسان العرب “الصُّوفُ للضأْن وما أَشبهه الجوهري الصوف للشاة والصُّوفةُ أَخص منه ابن سيده الصوفُ للغنم كالشَّعَر للمَعَزِ والوَبَرِ للإبل والجمع أَصوافٌ وقد يقال الصوف للواحدة على تسمية الطائفة باسم الجميع حكاه سيبويه وقوله حَلْبانَةٍ رَكْبانةٍ صَفُوفِ تَخْلِطُ بين وبَرٍ وصُوفِ” , ثم معجم مختار الصحاح “(الصُّوفُ) للشاة و(الصُّوفَةُ) أخص منه”. قيل إن الصوفية ينتسبون إلى الصفاء، وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم، وهذا يرجع إلى حال الصوفية ، وليس إلى الاشتقاق اللغوي ، ويرى القشيري أن هذا غير صحيح لأن نسبة الصفاء هي صفائي{3} وهذا رأي الكلاباذي أيضاً أن “الصوفية ينتسبون إلى الصفاء ، وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم ، صفاء القلب والروح والخلق ، فالصوفية أكثر الناس صفاء” {4} ,” ونسبت الكلمة إلى “صوفيا” اليونانية , ومعناها الحكمة ، والقائلون بذلك حجتهم إن القوم كانوا طالبين للحكمة ، حريصين عليها ، فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو حرفت صوفية وصوفي” {5} , أما الشق الاصطلاحي لا يختلف والحال هذا ، فالتصوف كما هو معلوم مر بمراحل ومتغيرات شتى , والتجربة الصوفية تجربة روحية مرتبطة بالشخص وذاته وما خبره , مما حال دون حصر تعريف متفق عليه , وما سنورده من تعاريف على سبيل المثال لا الحصر لأن المقام لا يسع ؛ يعرفه الجرجاني : بأنه ” هو علم القلوب الذي يبحث في أحوال النفس الباطنة ،ويسعى إلى تصفية القلوب والطهر والتجرد ، ويؤدي إلى الاتصال بالعالم العلوي” {6} ، ويعرفه الإمام أبو حامد الغزالي بأنه : “هو طرح النفس في العبودية ،وتعلق القلب بالربوبية ، فإن تصفية القلب عن مرافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانية الدواعي النقائية ومنازلة الصفات الروحانية ،والتعلق بالعلوم الحقيقية وإتباع الرسول في الشريعة” {7} ، وعرفه ابن سينا :”هو ذلك الإنسان المنصرف بفكرة إلى قدس الجبروت ، مستديماً لشروق نور الحق في سره “{8}
يبدو من خلال استعراض هذه التعاريف أن مفهوم “التصوف” كغيره من انتاجات العرب-المسلمين القدامى، سيطر عليه التعقيد وكثر حوله القيل والقال.
– ما التصوف الفلسفي: تعريفه، مصادره، الفرق بينه وبين التصوف السني
إن كان تعريف مفهوم التصوف سواء بالشقين اللغوي والاصطلاحي مختلف حوله، فمن البديهي تصور الصعوبات التي ستكتنف تعريف “التصوف الفلسفي” أولا من حيث هو تجربة صوفية ثانيا من حيث تلاقحه مع التجربة الفلسفية فكأن به كائنا هجينا لا أصل له ولا فصل. فبين شيخ وآخر، بين عالم وعالم مثله، حتى بين المتصوفة أنفسهم تباينت التجارب فاختلفوا في تعريف التصوف، ولعل اختلافهم هذا مبرر وجائز، مرده إلى التجربة الصوفية ككل، فهي ذات طابع شخصي محظ لا تتدخل فيها يد مخلوق ولا تستدعى وقت ما أراد المتصوفة بل كل يكابد للبلوغ اللحظة المرجوة، هذا ما دفع كل مرء يعرفها حسب تجربته ويصفها حسب ملمسه الخاص وللغة دور حاسم في هذا الأمر، سنتطرق لها فيما بعد. أما الآن فــ “المقصود بالتصوف الفلسفي ذلك التصوف النظري الذي يعمد أصحابه إلى مزج أذواقهم الصوفية بأنظارهم العقلية، مستخدمين في التعبير عنه مصطلحا فلسفيا ينتمي إلى الفلسفة وعلم الكلام أكثر مما ينتمي إلى التصوف.”{19}، ونضيف نقول إنه سلوك قائم على تجربة ذاتية خالصة خاصة قائمة على العقل والوجدان معا.
للتصوف الفلسفي وشائج مختلفة، فهنالك من عين نضجه وتطوره حتى القرن السابع الهجري بالغرب الإسلامي مع الشيخ الأكبر “ابن عربي” كنوذج أصلي مثل المراحل الأولى من هذا اللون، وشكل نسقا متكاملا يحيط بالفلسفي، الصوفي، الغنوصي والعرفاني.. يجمع هذا كله في نظرية تعتبر “الوجود كل واحد “، وفريق آخر ذهب إلى أن الروابط الأولى للتصوف الفلسفي تعود إلى القرنين الأول والثاني هجري مع “إمامة العاشقين” رابعة العدوية والحسن البصري ومالك ابن دينار.. استدمجة في هذه الفترة نزعات الزهد بالتصوف فكانت لبنة أساسية للتشكل ملامح التصوف الفلسفي. “في القرن الثالث الهجري اكتسب التصوف خصائص عديدة جديدة على الذوق الإسلامي منها الإغراق في الرمزية واصطناع مصطلحات بدت مستهجنة لأول مرة، وبدا أن التصوف قد تأثر بالتيارات الفلسفية و”الثيوصوفية” {20} والإشراقية، كذلك بدأ أثر الثقافة “الهيلينية” التي تسربت إليه من خلال ثقافات القساوسة في الأديرة المسيحية في الشام، ومن خلال مدرسة “جند يسابور” الفارسية في خرسان، ومن وثني حران في الجزيرو العربية – وبدا هذا الأثر واضحا في القرن الذي وقعت فيه خلافة المأمون والمعتصم والواثق 198-247هــ على نحو ما يذكر المستشرق الإنجليزي نيكلسون ” {21} ، “وعندما جاء القرن السادس هجري كانت مباحث الفلسفة اليونانية ، والرواقية ، والأفلاطونية المحدثة قد أحدثت أثرها في الفكر الصوفي المتفلسف ، ولذلك توجهت نظريات أصحابه إلى وضع نظريات في الوجود على دعائم من أذواقهم ووجداناتهم” {22} .
بناء على ما أسلفنا ذكره فالتصوف الفلسفي شكل آخر من أشكال التصوف يختلف ظاهرا وباطنا عن التصوف السني، هذا الأخير الذي ظهر عند المدارس الإسلامية المعتدلة التي اتخذت القرآن والسنة النبوية مصدرين من مصادر التصوف كالمدرسة القشيرية والجندية ومدرسة أبو حامد الغزالي؛ فما يميز التصوف الفلسفي عن سواه، موضوعات بحثه منهجه وأسلوبه ، فموضوعاته تشملا مباحث فلسفية متنوعة كالأنطولوجيا والأبستمولوجيا والسيكولوجيا والآكسيولوجيا ، فعلى الرغم مما تبدو عليه هذه الحقول ، مختلطة-متشابكة إلا أنها تتميز بصرامة ونسقية دقيقة تسع كل متصوف أن يطل خلالها من شباك الوجود خاصته ويرى الكون كما هو عليه ، يرى الكون ذاته هو هو ، أما منهجه فهو تأويلي-عرفاني خالص ، يرى نظرة جامعة مانعة عبرها تترجم له العلاقة بين الوجود والذات ، أما أسلوبه فيتميز بالتعقيد والاستغراق في الرمزية “إلى حد يمكن القول معه ، إن مصطلحات الصوفية لا تفيد إلا صوفية. ” {23}.
– اللغة الصوفية: وعاء الفكر
لطالما كانت اللغة ملاذا للكثيرين في التعبير عما يختلجهم وقبضة تنتشلهم من عزلتهم، وكان في طليعة هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والشعراء.. الذين ما انفكوا يروضون اللغة ويدفعون بها إلى “حدودها” القصوى. ولأن كانت الكتابة بهذا المعنى تجربة أنطولوجية اختبارية، فهي بالدرجة الأولى عملية استبطان النفس للبحث عن المعنى الأصيل، وبالدرجة الثانية عملية شاقة لانتقاء المفاهيم بدقة لا تحتمل الاحتمالات، هذا كله لبناء النص وفق أسلوب رشيق مرن يتماهى والقارئ معا، فالقراءة كالكتابة لا تكتمل أركانها إلا بالانفصال عن اللحظة الآنية والانغماس في العالم الذي خطه الكاتب ليصير عالما حقيقيا ولو نظريا على الأقل في مخيال القارئ، وحسبنا أن نشير إلى أمر غاية في الأهمية، أمر يشترك في كل من الكاتب والقارئ ، والفيلسوف والمتصوف ، والفقيه والعالم ، هذا الذي نتحدث عنه هي العزلة ، المناخ المثالي الذي ينمو فيه كل فكر وتتشكل فيه كل فلسفة ، ويعيش فيها كل صوفي متخذا منها ملجأ وحصنا ، فكم من روابط بنيت في العزلة ، وكم من عوالم شيدت معزولة.
قد يظهر ما قلناه نشاز عن سياق حديثنا، لكننا أردنا من هذا الذي كتبناه أن يكون بمثابة “التقديم” أو “التوطئة” الموجزة، لبيان العلاقة بين الكاتب واللغة، بين القارئ والكاتب، بين الكاتب والقارئ والعزلة، لنسلط الضوء بها على هاته الجسور العلائقية وما يكتنفها من تعقيد وما تنطوي عليه من تداخل وتشابك، بحيث تصبح عصية على الفهم، ناهيك عن التفكيك، وللنظر لهاته العلاقات قياسا إلى التصوف كتجربة وجودية شديدة الخصوصية تختلف من متصوف لمتصوف آخر. فلأن كان العالم ذاته معقدا ويدفع على لأقل نحو التساؤل، جاءت الرؤية الصوفية موازية ومعبرة عن هذا التعقيد ، بيد أن هذا لا يعني أن كلام المتصوفة ولغتهم عصية عن الفهم أو هي محظ طلاسم تقال رياء فحسب بل في واقع الحال هي لغة لا يفهمها “العوام” يقول ابن عربي في هذا الأمر: ” إنا الله على هؤلاء العصاة ما أجهلهم بشرف الكلمات ، وأنا الذي استوى وسقط وطلع وهبط ، وارتفع ونزل ، يا ليت شعري هب فهمت العقول اشارتي ، هل سمعت الآذان عبارتي ، هل عرف ما وراء هذه الحروف ، هل علم ما حوته هذه الظروف واها لسر مكتوم ودعاء مختوم ” {12}، فهم محوا حدود التواصل ودخلوا نطاق اللامحدود، اللا مألوف، المطلق، وسعوا إلى جعل اللغة، لغة وجود أوحد ثاويه في الكون ذاته ، لا سبيل لنا لفهمه إلى بها وعبرها ، وبهذا تتجاوز اللغة مرتبة التعبير عن التجربة (الوسيلة) لتلامس أفق التجربة في حد ذاتها (الغاية)، و “يصبح العالم كله نوعا من الكتابة أو اللغة أو مصحفا كبيرا على حد تعبير ابن عربي نفسه إلى جانب المصحف الصغير الذي هو القرآن الكريم ، إن الكون كله كتاب ، ولكن لا يحسن قراءته إلا من أحسن تأويله ، فهو الدال على عظمة خالقه ، وه اسم من أسمائه ، وتصبح الحروف كلها كائنات حية ، تعبر عن جلال الله “{13} ؛ لا يجوز التطرق لهذا الموضوع دون الحديث ولو بشكل مقتضب عن مراحل نشأة اللغة الصوفية .
قد نقسم مراحل نشأة اللغة الصوفية إلى ثلاث مراحل مرت بها في طريقها نحو النضج والاكتمال:
المرحلة الأولى: في هذه المرحلة لازالت اللغة الصوفية بسيطة كحياة الصوفي، ساعد القرآن في سيرورة التبلور هذه عن طريق الذكر والترتيل والسماع، وتكرار الألفاظ من قبيل محبة، قرب، شوق سكينة، قلب، صدق..، وسنقول عن هذه الفترة أنها فترة ترعرع فيها التصوف وتلاقى تربية إسلامية خالصة، من خلال تدبر معاني القرآن وألفاظه والنظر فيها بالوجدان قبل العقل، ويوجد فيه القرآن ما يعكس عمق تجربة الصوفية كقوله تعالى: ” وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ” {14}. ” كما مكن القرآن من خلق الاشتقاق اللغوي للاصطلاحات الواردة في القرآن، المتصوفة من توليد كلمات مثل: خلة، توكل، طمس، صورة، لدني (من لدنا). كما استمد المتصوفة من القرآن الألفاظ المتشابهة أو المتقابلة (Antithétique)، كالظاهر والباطل والطول والعرض والقبض والبسط، والمحو والثبات، والصبر والشكر والفناء والبقاء، وهذه المصطلحات لا تبوح بمحتواها إلا بعد التلاوة المتكررة ليتم استنباط مدلولها فيما بعد ” {15}. إن هاته المرحلة بالذات تقر أن الفكر الصوفي الأولي نشأ نشأة إسلامية خالصة، بشكل لا يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان.
المرحلة الثانية: مثل في هذا الطور تطور اللغة الصوفية كل من الحلاج وابن عطاء، حيث يشتد عود التجربة الصوفية وتتخذ لنفسها معجما خاصا يضم لغة، رموزا واشارات، فالفكر الصوفي هاهنا استقل وأصبح يوجه نفسه بنفسه بعدما كان ينهل من القرآن ويستقي منه ما يشاء، وأضحى ينظر للأشياء نظرة تأويلية أصيلة. “وفي ذلك يقول أحد الباحثين المعاصرين –نويا اليسوعي-: إن التجربة خلقت بين الصوفي والقرآن صلة جديدة هي الاستنباط، أي أن التجربة الروحية تلقي على النص أضواء جديدة فتصبح طريقة خاصة لفهم معانيه واستنباطها أي جرها من الوجود إلى أعماق ليست إلى أعماق التجربة التي عاشها الصوفي” {16}.
المرحلة الثالثة: بدأت منتصف القرن الرابع، ووصلت خلالها الصوفية أوجها في شخص النفري {17}، حيث انتقل أو بالأحرى تطور الفكر الصوفي من النهل من القرآن إلى مخاطبة ذات الله، وفي هذه المرحلة بالذات تخطو اللغة الصوفية خطوة مفصلية في مستوياتها، فتنصهر للغة غموض ورموز وإشارة حتى “الخواص” من الناس يجدونها مغلقة متعسرة على الفهم، هذا التعقيد مرده إلى أن الصوفي بلغ مرحلة ما لا يقال، ولعل أكثر من وصل هذا المستوى من “النطق عما لا ينقال والصمت عما ينقال ” هو النفري، يقول بهذا الصدد “الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني ” {18} .
سنتجرأ ونقول إن التصوف يحمل بذور تعقيده في ذاته، وما هذا التعقيد إلا اللغة الصوفية بحد ذاتها، لأن هذه اللغة إنما تمثل التجربة ككل وتتيح للصوفي ربط الوشائج وتشييد الجسور بينه وبين المتلقي إن هو فهم التجربة وهذا من المحال وإن لم يفهمها كان شاكرا حامدا على محاولته ملامستها على الأقل، وبهذا كان التصوف دائما ما يساء فهمه ويتعرض لتأويلات وتشويهات، وكانت أقوال المتصوفة دائما ما تحور عن المعنى الذي أراده لها أصحابها.
لكن تبغي الإشارة إلى أمر غاية في الأهمية، هو أن للمتصوفة أسبابهم الخاصة أيضا التي تدفعهم للتغطية “الدال” وتمويه “المدلول” اتقاء للسطوة العامة، ودرءا للشر الفقهاء المتربصين بهم.
إن هذا الموضوع الذي نرجو أن نكون قد توفقنا فيه، لشامل وواسع لا يسع الباحث إلا الإبحار فيه فإن وجد له ساحل ما فليرسوا فيه وليكتشفه فذلك هو المتصوف وأولئك هم المتصوفة، جزر متناثرة في محيط الوجود. إننا لامسنا الاختلاف الذي أحاط بالتصوف عامة وبالتصوف الفلسفي خاصة وعرفنا ما يقع تحت سلطانه من مفاهيم ولغة والعوامل التي أفادت وأثرت التصوف ككل، والتطور الكرونولوجي للتصوف الفلسفي الذي لم يولد مكتملا بل مر في مراحل أولها مرحلته الجنينية (الإسلامية) وآخرها نضجه في أحضان العلوم-الفلسفات التي استوردها العرب وتسربت إليهم من اليونان وعبر اللاتين، وللغة دورها الذي لا غنى عنه ولا سبيل للجهل بها ، والحال أن هذا الاختلاف الذي اكتنف التصوف/الفلسفي ما زاده إلا غنى وما أثرى إلا هذه “الصنعة النبيلة” إن جاز لنا تسميته هكذا ، فالتصوف ليس بلبس الرقعة ولا بالتكلف ولا الاستعلاء عن الناس بل هو طلب للحقيقة ولو كانت تمشي في الأسواق كما يقال ، وتقرب من الله بغية مجالسته تعالى ، ونكران للذات ؛ لا ضير في أن نكون حالمين ونقل على غرار ما قال فوكو يوما في جيل دولوز لكن بنفس صوفي ” سيأتي يوم سيصبح فيه العالم صوفيا” {22} .
–الإحالات والهوامش:
1. برتراند راسل “التصوف والمنطق ومقالات أخرى”، لندن، لونجمان عام 1921.
2. حميدي خميسي: مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف، دار الحكمة، ص74
3. القشيري: الرسالة القشيرية، دار الكتاب العربي بيروت، د.ت، د.ط، ص 12
4. 8ـ الكلابادي: التعرف لمذهب أهل التصوف، مكتبة الكليات الازهرية، القاهرة مصر، ط، 3
5. عرفان عبد الحميد: نشأة الفلسفة الصوفية، ط، 8ص، 108نقلا عن نيكلسون مؤلف دائرة
معارف القرن العشرين
6. الجرجاني: التعريفات، طبعة حلبي، القاهرة ـ مصر، د.ط، 1938م، ص 4
7. الغزالي: روضة الطالبين وعمدة السالكين، دار السعادة ـ مصر، د.ط ،1924ص. 14
8. ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، القاهرة، د.ط، 1948م، ص 17 45
9. إبراهيم ابراهيم يس: مدخل إلى التصوف الفلسفي (دراسة سيكو ميتافيزيقية)، الطبعة الثانية، ص 59.
10. المرجع السابق، ص 61
11. جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة، الطبعة ثالثة مفهرسة دار الطليعة – بيروت، ص 42
12. حميدي خميسي: مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف، دار الحكمة، ص79
13. المرجع السابق، ص78
14. القرآن الكريم -سورة ق، الآية 22
15. حميدي خميسي: مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف، دار الحكمة، ص85
16. المرجع السابق، ص86
17. محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري من أعلام التصوف الإسلامي
18. حميدي خميسي: مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف، دار الحكمة، ص87
19. إبراهيم ابراهيم يس: مدخل إلى التصوف الفلسفي (دراسة سيكو ميتافيزيقية)، الطبعة الثانية 2002، منتدى سور الأزبكية، ص19
20. الثيوصوفية: كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين معناهما الحكمة الإلهية، هي مصطلح ديني فلسفي ظهر في جذوره الأولى كممارسات روحية في الشرق الأقصى القديم بشكل خاص.
21. إبراهيم ابراهيم يس: مدخل إلى التصوف الفلسفي (دراسة سيكو ميتافيزيقية)، الطبعة الثانية 2002، منتدى سور الأزبكية، ص21
22. المرجع السابق، ص22
23. (العبارة هي “سيأتي يوم يصبح فيه العالم دولوزيا” – M.faucault theatrum philosophicum critique N°70)
–لائحة المصادر والمراجع:
ü ولتر ستس: التصوف والفلسفة، ترجمة وتعليق وتقديم – أد. إمام عبد الفتاح إمام، ا مكتبة مدبولي، طبعة 1999.
ü محمد العدلوني الإدريسي: ابن عربي ومذهبه الصوفي الفلسفي، ا دار الثقافة–الدار البيضاء، الطبعة الثانية2004.
ü إبراهيم ابراهيم يس: مدخل إلى التصوف الفلسفي (دراسة سيكو ميتافيزيقية)، منتدى سور الأزبكية، الطبعة الثانية 2002.
ü حميدي خميسي: مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف، دار الحكمة.
ü عفاف مصباح بلق: التصوف الإسلامي (مفهومه–نشأته وتطوره–مصادره)، مجلة كلية الآداب، العدد الرابع عشر يونيو 2019.
ü جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة، الطبعة الثالثة مفهرسة دار الطليعة – بيروت.