قراءة نقدية في الإبيستيمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه – د.علي أسعد وطفة
أ. د. علي اسعد وطفة، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق، أستاذ بجامعة الكويت – كلية التربية – منذ عام 1997حتى الآن. حاصل على دكتوراه في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان Caen (فرنسا) 1988
مقدمة :
تشكل أعمال جان بياجيه Jean Piaget (1896-1980) واكتشافاته في مجال علم النفس التكويني فتحا علميا مظفرا يتوّج المعرفة العلمية في القرن العشرين. لقد كرس جان بياجيه جهوده العلمية في الكشف العلمي عن المجاهل السيكولوجية الكبرى في عالم الطفولة، وإليه يعود الفضل في الكشف عن الحتميات السيكولوجية للعمليات المعرفية البنائية عند الأطفال. لقد كان عالم الطفولة قبل بياجيه مجهولا في مستواه العلمي، وكان قدر بياجيه أن يبدد أسرار هذا العالم وأن يكشف عن المراحل الحيوية الحرجة في تطور قدرات الأطفال العقلية بصورة علمية وتجريبية.
تأتي أعمال جان بياجيه ونظريته في علم النفس التربوي استجابة تاريخية لإشكاليات تربوية قديمة متجددة فرضت نفسها بقوة في صلب القرن العشرين. وتتمثل هذه الإشكاليات في الصعوبات التي كان يواجهها المربون في فهم سلوك الطفل، وعدم قدرتهم على التجاوب مع التحديات المعرفية التي تتصل بصيرورات النمو العقلي عند الأطفال، وبالكيفيات التي تتحقق فيها عملية التكوين المعرفي لديهم.
حتى القرن العشرين كان المربون يعانون من نقص كبير ومخيف في معرفة طبيعة الطفل وقدراته العقلية ومراحل نموه وتطوره. وبقيت استجابات الأطفال ومواقفهم إزاء الراشدين تتسم بالغرابة والغموض، وكان سوء الفهم هذا بين عالم الراشدين وعالم الأطفال قائما في أغلب المراحل التاريخية السابقة.
من هذه الزاوية ينطلق العمل العلمي لجان بياجيه ومن عمق هذه الإشكالية تنهض عبقريته لتقدم إجابات علمية حول طبيعة الطفل وقدراته العقلية ومراحل نموه وكيفيات تشكل المعرفة لديه والعمليات الذهنية التي يعتمدها في تحصيل المعرفة. وعلى هذا الأساس بدأ بياجيه يواجه السؤال التاريخي المتمرد مجسدا في معادلة فهم الراشد للطفل وقوامه: لماذا لا يستطيع المربي أن يفهم الطفل ويدرك طبيعته، مع أن المربي نفسه سبق له أن كان طفلا وعاش مرحلة الطفولة، وخبر تجاربها وتنكب صعابها وخبر لحظاتها بإيجابياتها وسلبياتها ؟ هذا هو السؤال المحير والغامض والمغامر الذي يطرحه بياجيه. وبكل عبقرية يقدم بياجيه إجابة تفرضها رؤيته العلمية لطبيعة الطفل وتتمثل هذه الإجابة ببساطة قوامها: الراشد لا يفهم الطفل ويخطئ في تربيته وذلك لأنه ينظر إلى الطفولة من عيون الراشد ومنظاره. إنه يريد أن يفهم عالم الطفولة عبر رؤية الكبار ونظرتهم؛ وهذا الرأي يقدم إضافة علمية جديدة وهي أن عقل الطفل يتطور بصورة لاشعورية ويتحول مع الزمن إلى عقل الراشد الذي لا يستطيع أن يدرك ذاته وأن يتمثل معاني تطوره. ومن هذه النقطة تتفجر العطاءات العلمية لنظرية بياجيه في فهم سيكولوجية الطفل وينطلق للكشف عن الشيفرة الداخلية التي تحكم نماءه وتطوره([1]).
ينطلق بياجيه في بناء نظريته البنائية من رفضه الكلي للتطرف الذي تبديه نظريتا الوراثة والبيئة في تفسير كيفية حدوث الفهم والنمو المعرفي عند الأطفال. فأنصار الوراثة يرون بأن الذكاء والتعلم أمر تحكمه عناصر وراثية، وعلى خلاف ذلك فإن السلوكيين يعتقدون بأن البيئة هي الصائغ الأول للسلوك الإنساني([2]). ومن أجل الوصول إلى رؤية علمية دقيقة درس بياجيه عمليات النمو المعرفي عند الأطفال عبر الملاحظة المنهجية العلمية الدقيقة لسلوكهم وردود أفعالهم، وقام بدراسة منظّمة لعمليات تشكل مفاهيم الزمان والمكان والحجم والطول والانعكاس والتقابل والتكامل والتجريد. وانتهى في تجاربه ودراساته الهائلة إلى نظرية بنائية تكوينية خاصة تؤكد على دور البيئة والوراثة معاً في تطور النمو المعرفي للطفل([3]).
فالطفل كما يعتقد بياجيه لا يولد مبرمجاً جاهزاً على نحو كلي، بل يتفاعل مع بيئته ووسطه ويتكوّن في نسق التفاعل بين البيئة والوراثة. والطفل ليس كيانا باردا جامدا أو صفحة بيضاء يخضع لشروط البيئة ويتكون بمقتضاها بل هو كائن إيجابي فاعل أيضا يتشكل في نسق البيئة فيشكلها وتشكله في آن واحد. فالتفاعل وفرص التعلم النشط أمور حيوية في تطوره. وأخيرا وصل إلى نتائج هامة قوامها: أن التطور العقلي عند الطفل عملية تتسم بالحيوية والنشاط، وأن الطفل ليس راشدا صغيرا وأن تفكيره وطبيعته تختلف عن الراشد بصورة نوعية.
السيرة الذاتية لجان لبياجيه:
في التاسع من آب/أغسطس عام 1896 شهدت مدينة نيوشاتل Newchatell في سويسرا ولادة جان بياجيه Jean-Piaget لؤلؤة عصره وفريد زمانه في مجال علم النفس التكويني. وكان والده يعمل أستاذا لتاريخ العصور الوسطى في جامعة لوزان، وكانت أمه امرأة متدينة ومحافظة ورافضة لكثير من الأفكار والتصورات العقلانية الجامحة التي كان يدين بها زوجها بوصفه أستاذا في التاريخ الوسيط. وكان الصراع والجدل الفكري يدور بين الأبوين وعلى مسمع من بياجيه حول قضايا فكرية وفلسفية محددة([4]).
وسرعان ما عرف عن بياجيه الصغير بأنه طاقة ذكاء متفجرة، حيث ظهرت معالم عبقريته في مرحلة مبكرة من عمره. لقد أذهل الوسط في العاشرة من عمره عندما نشر مقالة له في مجلة علمية مرموقة حول ” عصفور الدوري بوصفه عصفورا نادرا من عصافير جبال الألب” ؛ وقد جذب هذا المقال إليه الأنظار وجعله محط اهتمام كثير من المثقفين في عصره، وكانت بداية مبشرة لعبقرية سيكون لها شأن في عالم الإبداع العلمي والمعرفي في أوروبا والعالم في القرن العشرين وما يليه. لقد برهن عبر مقاله هذا أنه يمتلك في داخله على طاقة إبداعية واعدة ومبشرة في عالم العلم والمعرفة العلمية. وقد تجلت هذه الطاقة في قدرته المذهلة على ملاحظة الأشياء بصورة علمية منظمة وفي قدرته على تدوين هذه الملاحظات بصورة مستمرة لمختلف نشاطات وسلوكات الكائنات الحية. وقد حظيت الرخويات باهتمامه الكبير فبدأ يجمعها من على شواطئ البحيرات ويدرسها بطريقة مبتكرة، ومن ثم بدأ بكتابة سلسلة من المقالات المذهلة حول الرخويات في مجلات علمية متخصصة في علوم الأحياء. وقد ذاع صيته وانطلقت شهرته في هذا الميدان بوصفه عالما متميزا في هذا المجال. وقد بلغ تأثيره أنه كُلّف رسميا بأن يكون مديرا لواحد من أهم المتحف في جنيف في السادسة عشرة من عمره ولم يكن بعد قد أتم دراسته الثانوية العامة، وقد رفض المنصب لصغر سنه.
انتسب إلى جامعة نيوشاتل في عام 1914، وكان متأثرا بأحد أساتذته ويدعى ريمون الذي اهتم كثيرا بالفلسفة والبيولوجيا. وقد كثف مطالعاته أثناء الحرب العالمية الأولى حول فلسفة كانط وسبنسر وكونت ولالاند ودوركهايم([5]).
نال بياجيه درجة الدكتوراه في عام 1918 في العلوم الطبيعية في مرحلة مبكرة من عمره من جامعة نيوشاتل، وكان عمره آنذاك اثنتين وعشرين عاما. وكان موضوع أطروحته يدور حول الرخويات. وانتقل عام 1919 إلى باريس وتعرف على عدد كبير من العلماء والمفكرين وفي مقدمتهم تيودور سيمون Théodore Simon الذي عرف بنشاطاته العلمية في مجال بناء اختبارات الذكاء مع المفكر الفرنسي المعروف الفريد بينيه Alfred Binet عام 1910. وقد شغل منذ البداية بموضوع نظرية المعرفة وشغف بهذه القضية فاطلع على آراء مختلف المفكرين والفلاسفة في هذا المجال. وقد أطلع بدقة على نظرية الفيلسوف الإنكليزي جون لوك J.Lock الذي كان يؤكد على أهمية التجربة في تشكل المعرفة وهو صاحب المقولة المشهورة بأن الإنسان صفحة بيضاء. ويرتبط مفهوم نظرية المعرفة باسم جون لوك الذي عالج موضوع المعرفة كعلم مستقل في كتابه المعروف مقالة في العقل البشري الذي صدر عام 1690 وهو أول بحث علمي منظم يكرس لدراسة أصل المعرفة وماهيتها وحدودها ودرجة اليقين فيها([6]). ثم اطلع على الفلسفة الديكارتية ذات النزعة العقلية في المعرفة، وأصحاب هذه النظرية يقولون، على خلاف لوك، بأن الإنسان يمتلك معرفة أولية فطرية سابقة للتجربة وهي معرفة تتصل بالمبادئ الأولى للوجود([7]).كما اطلع على نظرية المعرفة عند كل من كانط وأرسطو وأفلاطون وهيغل وماركس وكونت، وتبحر في هذا الميدان في اتجاهاته المختلفة.
عاد بياجيه إلى نيوشاتل عام 1925 وتوّج عودته بزواج مظفر من إحدى تلميذاته القدامى وتدعى فالانتين شاتينيه، وقد أثمر هذا الزواج عن ولادة طفله الأول في العام نفسه، وكانت ولادة هذا الطفل نقطة تحول كبير في تفكير جان بياجيه التجريبي، لقد حظي مع مولوده الجديد بفرصة متميزة لتسجيل ملاحظاته التجريبية حول تكون الوليد معرفيا وإنسانيا. وبعد سنوات أربعة قضاها في نيوشاتل غادرها إلى جنيف مكرسا وقته لدراسة علم النفس التجريبي. وقد عهد إليه أثناء ذلك منصب نائب مدير مؤسسة جان جاك روسو وقد تسنم بعدها منصب مدير المكتب العلمي للتربية التابع لليونيسكو([8]).
وفي عام 1952 منح بياجيه وظيفة أستاذ في جامعة السوربون في باريس قام خلالها بتدريس علم النفس التكويني حتى عام 1963 وأجرى أبحاثا عديدة في حقول علمية مختلفة وفي مجالات مختلفة غطت مجالات في الرياضيات والفيزياء والمنطق والبيولوجيا وعلم النفس واللغات([9]).
وفي سنة 1956 أسس المركز العالمي للإبيستيمولوجيا التكوينية الذي أصبح مركزا للبحث العلمي في مختلف المجالات المعرفية، وقد شكلت الأبحاث النوعية المشتركة التي أجراها في هذا المركز منطلقه العلمي الأمبيرقي في بناء تصورات علمية تتجاوب مع الإشكالية المعرفية القديمة حول الكيفيات التي تتم فيها عمليات اكتساب المعرفة، وتحديد اتجاهات تطور هذه المعرفة، والكشف عن طبيعتها التي تأخذ طابعا بنائيا ابتكاريا متجددا. ثم اعتزل مهنة التدريس في الجامعة في عام 1973، وتفرغ للإشراف على نشاطات المركز وبقي مع ذلك نشطا في مجال التأليف والمشاركة في المؤتمرات العلمية
وفي السادس عشر من سبتمبر عام 1980 توارى بياجيه وغاب عن الساحة العلمية إلى جوار ربّه بعد أن كان قد أشع في عصره ضياءً، وتوهج معرفةّ وعلما، وأومض عبقريةً، فأسس نظرية علمية متكاملة راسخة في ميدان الإبيستيمولوجيا المعرفية، وسجل نفسه بين عظماء التاريخ الإنساني زعيما للنزعة البنائية والتكوينية في نظرية المعرفة([10]).
أعمال بياجيه:
ترك لنا تراثا علميا ضخما في مختلف مجالات المعرفة وميادينها ولاسيما في المنطق والإبيستيمولوجيا والذكاء وعلم النفس. ونحن نستعرض بعضا من هذه الأعمال لأن استعراضها يقدم صورة واضحة وهامة عن طبيعة الأعمال التي قدمها بياجيه وعن أهمية القضايا والموضوعات التي طرحها في ميدان التربية وعلم النفس، ونسرد نسقا من هذه الأعمال على مبدأ التتابع في سياقها التاريخي ومن أهمها:
اللغة والتفكير عند الطفل (1923) Le Langage et la pensée chez l’enfant ([11]). التفكير الرمزي والتفكير عند الطفل (1923) «La Pensée symbolique et la pensée de l’enfant» ([12]). الحكم والاستدلال عند الطفل عام 1924 Le Jugement et le raisonnement chez l’enfant([13]).السببية الفيزيائية عند الطفل (1927) La Causalité physique chez l’enfant([14]). المنطق الوراثي وعلم الاجتماع (1928)«Logique génétique et sociologie», ([15]). الفرد وتشكل العقل(1933). L’individu et la formation de la raison ([16]). ولادة ذكاء الطفل (1936) La Naissance de l’intelligence chez l’enfant ([17]). بناء الواقع عند الطفل (1937) La Construction du réel chez l’enfant ([18]). السببية الفيزيائية عند الطفل (1937) La causalité physique chez l’enfant, Paris ([19]). الحكم الأخلاقي عند الطفل (1939) Le Jugement morale chez l’enfant( ([20]). أصل العدد عند الطفل (1941) La Genèse du nombre chez l’enfant([21]). العمليات الإجرائية والحياة الاجتماعية( 1945) Les Opérations logiques et la vie sociale([22]).
تطور مفهوم الزمن عند الطفل (1946) Le développement de la notion du temps chez l’enfant ([23]). بناء الرمز عند الطفل (1946) La Formation du symbole chez l’enfant ,([24]). علم نفس الذكاء (1947) La Psychologie de l’intelligence([25]). العلاقة بين العلم والفلسفة (1947) Du rapport des sciences avec la philosophie([26]). حكمة الفلسفة وأوهامها Sagesse et illusions de la philosophie في عام 1949 ([27]).مقدمة في الإبيستيمولوجيا البنائية (1949) Introduction à l’épistémologie génétique ([28]). الإبيستيمولوجيا البنائية والمنهج الديالكتيكي(1950) Epistémologie génétique et méthodologie dialectique ([29]). التفكير الفردي المركزي والتفكير الجمعي المركزي (1951) Pensée égocentrique et pensée sociocentrique » ([30]). التفسير في علم الاجتماع (1951) L’Explication en sociologie([31]). علم النفس البنيوي والإبيستيمولوجي(1952) De la psychologie génétique à l’épistémologie»,([32]). العلاقة بين العاطفة والذكاء في عملية تطور الطفل(1954) Les Relations entre l’affectivité et l’intelligence dans le développement mental de l’enfant([33]). الحياة والتفكير (1954) La Vie et la pensée» ([34]). من منطق الطفل إلى منطق المراهق(1955) De la logique de l’enfant à la logique de l’adolescent([35]). المفهوم التوازن ودوره في التفسير السيكولوجي(1959)Le Rôle de la notion d’équilibre dans l’explication en psychologie([36]). في أصل البنى المنطقية الأولية (1959) La Genèse des structures logiques élémentaires ([37]). مقدمة في علم النفس التجريبي(1963) Traité de psychologie expérimentale ([38]). المشكلات النفسية الاجتماعية عند الطفل(1963) Problèmes de la psycho-sociologie de l’enfance» ([39]). علم نفس الطفل(1966) La Psychologie de l’enfant([40]). ضرورة الأبحاث المقارنة في علم النفس البنيوي ودلالتها(1966) Nécessité et signification des recherches comparatives en psychologie génétique([41]). البيولوجيا والمعرفة (1967) Biologie et connaissance ([42]). المنطق والمعرفة العلمية (1967) Logique et connaissance scientifique([43]). البنيوية (1968) Structuralisme([44]). التربية إلى أين ؟ Où va l’éducation ([45]). علم النفس والتربية (1969) Psychologie et pédagogie([46]). أبحاث في السببية (1971–1973) Etudes sur la causalité([47]). التكيف الحيوي في علم نفس الذكاء (1974) Adaptation vitale et psychologie de l’intelligence([48]). توازن البنى المعرفية (1975) L’équilibration des structures cognitives([49]). السلوك محرك النمو(1976) Le Comportement , moteur de l’évolution([50]). الأشكال الأولية للديالكتيك (1980) Les Formes élémentaires de la dialectique([51]).
نظرية المعرفة عند بياجيه:
قدم بياجيه إجابات عبقرية حول تساؤلات فلسفية إبيستيمولوجية طرحتها الإنسانية منذ عهود موغلة القدم. وإذا كان قد قدّّر لابن طفيل الأندلسي من قبل أن يقدم إجابة إبيستيمولوجية للقضية الفلسفية الكبرى في عصره حول إشكالية الدين والفلسفة عبر برهان أدبي تربوي تمثل في رائعته الأدبية حي بن يقظان، فإن جان بياجيه استطاع بدوره أن يبتدع منهجا علميا ويبتكر طرائق تجريبية متقدمة في مجال الإجابة عن السؤال الإبيستيمولوجي الجوهري في الفلسفة الذي يتمثل في نظرية المعرفة وفي خصائص اكتسابها([52]). وفي دائرة هذه المحاولة العبقرية استطاع بياجيه أن يجرد الفلسفة من أحد أكبر قضاياها الإبستيمولوجية وأن يضعها في المختبر العلمي. وما كان في مقدور بياجيه أو غيره أن يصل إلى تحقيق هذا الإعجاز العلمي الإبيستيمولوجي ما لم يكن أسطونا من أساطين المعرفة العلمية في عصره؛ فبياجيه كان عالما موسوعيا وتشهد له ابداعاته على ذلك في مختلف ميادين المعرفة ويشمل ذلك الرياضيات والطبيعيات والفلسفة والمنطق وعلم النفس، وفي هذا دليل على امتلاكه للروح العلمية الموسوعية. وقد منحته هذه الموسوعية قدرة هائلة على اختبار قضايا معرفية أزهقت الأقدمين في جدل ومماحكات بدأها الإنسان الأول وخاض فيها عمالقة الفلسفة وجهابذة الحكماء في الشرق والغرب في اليونان القديمة وفي الحضارة الإسلامية.
لقد تميز بياجيه بقدرته الهائلة على معالجة قضايا فلسفية كبرى في سياق تجربي ؛ واستطاع بعقلانيته هذه أن يفصل بين مباحث الإبيستيمولوجيا والفلسفة، وأن يجعل من الإبيستيمولوجيا ونظرية المعرفة علما مستقلا بذاته، وأن يربط في الوقت نفسه بين هذا العلم وبين مختلف العلوم الإنسانية ولا سيما مع علم البيولوجيا. وتأسيسا على ذلك كرس بياجيه حياته العلمية برمتها في دراسة تفكير الطفل وفي اختبار فرضياته حول طبيعة النمو المعرفي عند الطفل. ومن هذا المنطلق ينظر إليه اليوم بوصفه المعلم الأول في مجال النمو المعرفي عن الطفل.
تعد نظرية بياجيه نظرية في المعرفة Théories de connaissance من أكثر النظريات العلمية اتصافا بالطابع الموضوعي وأكثرها رزانة وطموحا، ومن سمات هذه النظرية أنها تستند إلى عقل تجريبي موسوعي خضرمته الطموحات العلمية وصقلته التجارب العلمية وأرهفه شغف معرفي إنساني تجاوز كل الحدود([53]).
ومن أجل أن نفهم بياجيه يجب علينا في البداية أن نواكب تطلعاته الأولية المعرفية وخلفياته الفكرية. في البداية كان له صولات وجولات معرفية حركها نهم علمي وفكري متوحش إلى مختلف أشكال المعرفة، وقد تحول هذا النهم العلمي إلى شغف بالفلسفة وإيمان برسالتها. فتبحر في مختلف المعارف، وشد رحال إلى قراءة كبار الفلاسفة وكبريات القضايا الفلسفية التي طرحت في عصره وفي العصور التي سبقته طرا. فأتى على أمهات الكتب وعلى جهابذة الكتاب. فتأثر بأرسطو وكانط وروسو وديكارت وسبينوزا ودوركهايم وفرويد وماركس وأنجلز ولم يترك في عالم الفلسفة ودنيا المعرفة جانبا إلا واطلع عليه وخاض فيه ونهل منه. فتعلم فن الغوص في القضايا الفلسفية الكبرى ولا سيما مسألة المعرفة ونظريتها. لقد طرح بياجيه الأسئلة المعرفية القديمة التي طرحها كل من أرسطو Aristote وديكارت Descartes وكانت Kant وهيغل Hegel وغيرهم. وتدور هذه الأسئلة حول محاور عدة تتصل: كيف تكتسب المعرفة ؟ ما طبيعة هذا المعرفة ؟ وما طبيعة الذات العارفة ؟ ما علاقة الذات العارفة بموضع المعرفة ؟ هل المعرفة فطرية في الإنسان ؟ أم أنها مكتسبة ؟ أم هي مزيج بين المكتسب والفطري ؟ كيف تتم المعرفة وما هي مراحلها ؟ ما صيروراتها وأوالياتها وفعالياتها ومراحلها ؟ وكيف يتشكل عقل الطفل وما هي وظائفه ؟ وتلكم هي الأسئلة التي تشكل حدود الإبيستيمولوجيا البنائية عند بياجيه. وفي الإجابة عن هذه الأسئلة تتفجر عبقريته العلمية ويتدفق عطاءه المعرفي بصورة ابتكارية مذهلة.
لقد قدم أغلب الفلاسفة إجابات رزينة حول هذه القضية، ولا تخلو هذه الإجابات من الذكاء والروعة والأصالة وشطحات الابتكار والعبقرية. لقد قدم ديكارت وكانط وأرسطو من قبل إجابات تتصف بالغنى والجدارة والجمال عن السؤال المعرفي الإبيستيمولوجي، ولكن بياجيه تفرد في طرح هذه القضايا طرحا علميا يستجمع فيه مختلف العلوم والفنون والآداب وانفرد من بين الجميع في تقديم صورة رائعة ونظرية فذة ودقيقة وعلمية حول هذه الأسئلة التاريخية التي شكلت ما يسمى بالسؤال الأساسي في الفلسفة. وينطلق بياجيه من أرضية الصراع بين ثلاثة اتجاهات أساسية في نظرية المعرفة:
الاتجاه العقلي:
يرجع أصحاب هذا الاتجاه المعرفة كلها إلى العقل الفطري بوصفه أصل المعرفة وجوهرها. فالعقل وفقا لأصحاب هذه الرؤية قوة فطرية في الناس جميعًا، وهو يمكن الإنسان من الاستدلال العقلي الخالص والوصل إلى عين الحقيقية من غير مقدمات تجريبية أو حسية. ويعد أفلاطون زعيم هذا الاتجاه الفلسفي المثالي. فالمعرفة لديه أصيلة في النفس، والفرد عندما يحصّل المعرفة فإنه يستذكر المعلومات التي كانت للنفس عندما كانت تطوف في عالم المثل، أي في العالم الروحاني قبل هبوطها إلى عالم المادة والتجسد. فهذه النظرية ترى أن النفس في عالم المادة تسترجع ذكرياتها وأن هذه الذكريات الروحية هي عين المعرفة الكلية. وقد شكلت رؤية أفلاطون منهجا لنظرية المعرفة في النسق المثالي للفلسفة إلى حد أن المثاليين الذاتيين يعتقدون ألا وجود للعالم الموضوعي إلا من خلال إدراكاتنا أي أن العالم هو وجود ذاتي روحي كلاني خالص.
ومن أجل تبسيط هذه النظرية غالبا ما يشار إليها بأنها نظرية (آلة العرض- Projecteur) فالأطفال يأتون إلى هذا العالم وقد زودت عقولهم بمعرفة أولية فطرية أو قد برمجت بصورة كلية فهي تتضمن مجموعة هائلة من الأفلام والصور. فالمعرفة هنا مصدرها عقل الإنسان ولا يوجد جديد في هذا العالم وإنما العقل يستدعي ما هو موجود فيه.
الاتجاه الحسي التجريبي:
يرجع أصحاب هذا التيار المعرفة الإنسانية جميعها إلى التجربة الحسية أو الواقع، والعقل وفقا لهذه الرؤية مرآة تعكس الواقع الخارجي على صورة انطباعات حسية. فالمصدر الوحيد الذي يزود العقل بالتصورات والمعاني هو الحس والتجربة. أما القوة الذهنية فهي القوة العاكسة للإحساسات والانطباعات التي اكتنزها الذهن، والذهن ليس له إلاّ التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب أو التجزئة أو التجريد والتعميم.
وقد نشأت هذه النظرية لدحض النظرية العقلية المثالية التي مثّلها الفيلسوف الفرنسي «ديكارت». ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك زعيم هذا التيار وكان يعتقد أنه لا يوجد في العقل ما لم يسبق وجوده في الإحساس. وقد انتصر لهذه الرؤية النظرية عدد من كبار الفلاسفة الماديين مثل هوبز وديفيد هيوم وماركس وأنجلز. ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى الاعتقاد المكين بأن إدراكاتنا كلها ما هي إلا انعكاسات للواقع الحسي الموضوعي بصورة أو بأُخرى، لأن الإحساس، والإحساس وحده يشكل ينبوع التصورات والمفاهيم وأن إدراكاتنا تطابق إحساساتنا. ومع ذلك فإن التجربة لا تجرد الذهن عن فاعليته في ابتكار تصورات جديدة فالذهن يولد المفاهيم عن طريق التجربة فالعلة والمعلول والعرض والسبب والوحدة والكثرة ولدت في نسق التجربة ذاتها فالحس مثلا يرصد التعاقب في الظاهر والتكامل والوحدة والكثرة ويولد هذه المفاهيم على مقياس الملاحظة والتجربة.
ويرمز إلى هذه النظرية بنظرية ( آلة التصوير أو بالكاميرا ) فالعقل هنا ينسخ الواقع ويتمثله فهو يلتقط الصور ويخزنها ويحمضها وهذه الصور تكوّن رصيد الفرد المعرفي، لأن الكاميرا لا توجد فيها صور مسبقة. وكلما كانت الكاميرا أكثر دقة وحساسية كلما استطاعت أن تسجل صورا أكثر دقة ووضوح وهكذا يختلف الأفراد فيما بينهم بمدى قدراتهم العقلية الناجمة عن الانطباعات الخارجية.
الاتجاه النقدي:
يركز أصحاب هذا الاتجاه على العقل المكتسب والعقل بالفطرة كلاهما في الكشف عن هوية المعرفة الإنسانية. ويعد ديكارت وكانت من عمالقة هذا التيار النقدي الذي يخرج من دائرة الأحادية المعرفية إلى مبدأ الثنائية التفاعلية. فهناك معرفة بالكليات وهي معرفة عقلية فطرية خالصة؛ وهناك معرفة بالجزئيات وهي معرفة حسية تجريبية بالدرجة الأولى. فهناك ينبوعان للمعرفة: أحدهما الحس والآخر الفطرة. يؤكد أصحاب هذا التوجه بأن العقل يملك مفاهيم ومعاني وتصورات غير حسية أي أنها لم تصدر عن الحس بل هي معرفة فطرية متأصلة في الوعي والعقل الفطري السابق على التجربة. وبالمقابل هناك معرفة حسية تصدر عن التجربة والحواس وهي تقابل ما يسمى بالعقل العملي عند كانط أو وهو العقل الذي يوجه السلوك والحياة الإنسانية.
ويعد الفيلسوف الفرنسي ديكارت زعيم هذه النزعة العقلية النقدية في نظرية المعرفة. يبين ديكارت في تأملاته الفلسفية وجود نوعين من المعرفة: فهناك أفكار فطرية مغروزة في طبيعة الإنسان وهي المسلمات العليا للتفكير وهي مسلمات تتسم بالوضوح والجلاء مثل فكرة الله والحركة والامتداد في الطبيعة ؛ وهناك معرفة حسية التي تنتج في الذهن كثمرة لتعامل الحواس مع الواقع الخارجي. ويعد الفيلسوف الألماني كانط (1724 – 1804) من أبرز ممثلي هذا التيار حيث يميز بين “المعرفة الأولية” التي تسبق التجربة وهي معرفة فطرية لا اكتساب فيها، وبين المعرفة التي يتم اكتسابها عن طريق التجربة أو ما يطلق عليه “المعرفة البعدية”
النظرية البنائية للمعرفة عند بياجيه:
لقد قمنا بعرض الاتجاهات السابقة في نظرية المعرفة لأن إدراك هذه النظريات يشكل منطلقا جوهريا في فهم وإدراك الإشكالية التي ينطلق منها بياجيه في تحليله لنظرية المعرفة. لقد شغف بياجيه بهذه القضية واطلع على مختلف الرؤى والتصورات المعرفية بدقة متناهية وعلى هذا الأساس بدأ يبني نظريته التكوينية في عالم الإبيستيمولوجيا والمعرفة.
يوجّه بياجيه نقدا منظما يتسم بالدقة والموضوعية للاتجاهات الفلسفية السائدة في نظرية المعرفة، وينطلق من هذا النقد الموجه إلى الانطباعية الحسية وإلى المثالية العقلية ليكون نظريته العلمية في مجال تكون المعرفة الإنسانية وتشكلها. يقدم بياجيه رؤية علمية جديدة حول نظرية المعرفة وهو يرى بأن المعرفة عملية بنائية ابتكارية وهي ليست مجرد تكوينات فطرية أو تجريبية إنها هذا وذاك ولكن بين التكوينات الفطرية والتكوينات الحسية يوجد الذات الإنساني الذي يتدخل في عملية البناء وبعمل على إحداث توازن معين في معادلة الفطري والمكتسب في المعرفة. وهذا يعني أن بياجيه يقرّ من حيث المبدأ بوجود استعدادات فطرية ويؤمن أيضا بالحواس والتجربة كمصدر من مصادر المعرفة ولكنه يضيف عنصرا ثالثا في المعادلة هو ما يسمى بالابتكار الإنساني أو الجهد الإنساني في تكوين المعرفة. وينطلق في البرهان على رؤيته الجديدة بمجموعة ضخمة من التجارب والرؤى والتصورات والمقولات في هذا الميدان.
فالطفل يبني عالمه وواقعه بنفسه، ويكون نظامه المعرفي على نحو ابتكاري. وهذا يعني أن فهمه للواقع وإدراكه لمعطياته لا يطابق الانطباعات الحسية التي تصدر عن الأحاسيس. فالإدراك لا يطابق معطيات الحس بل يأخذ صورة مختلفة نسبيا عن مكوناته الواقعية. لأن الطفل يعيد بناء الواقع بصورة أخرى غير مطابقة لمعطيات الحواس أو للعالم الواقعي. وهذا يعني كما يقول بياجيه “أننا لا نعرف الواقع ولكن نعرف ما صار إليه في عقولنا”([54]). فالواقع هو إعادة تكوين وإبداع ما هو موجود في البيئة التي نعيش فيها. فالمعرفة هنا غير مطابقة كليا للواقع وليست نسخة منه إنها عملية أبداعية تستمد طاقتها من الفعل البنائي عند الإنسان نفسه.
ومن أهم العناصر العبقرية في نظرية بياجيه التكوينية أن بياجيه لا يقف عند حدود الطروحات الفلسفية الكبرى التي تقتصر على أسئلة كلاسيكية مثل: مصدر المعرفة، وآلية بنائها واكتسابها، والعلاقة بين الذات العارفة والموضوع. بل يتجاوز هذا كله وينتقل بهذه الأسئلة إلى المختبرات العلمية ويقرر بعد جولاته وصولاته في هذه المختبرات صورة علمية بديعة لعملية تشكّل المعرفة، فيبين للبشرية كيف تتم المعرفة في كل مرحلة من مراجل النمو الإنساني مرحلة تلو أخرى وعاما بعد آخر وشهرا بعد شهر ويوما بعد يوم. إنه يبين لنا بصورة عبقرية لعملية انبناء المعرفة وتشكلها ويحدد عناصرها وآلياتها وصيروراتها بيولوجيا ونفسيا ومنطقيا وتجريبيا. وهو في وصفه العلمي هذا يحدد القوانين العلمية الدقيقة لنمو المعرفة واكتسابها وكيفياتها ؛ وهنا ينفرد بياجيه عن السرب ويقدم معجزته العلمية التي تبهر البصر وتدهش العقل. فالعقل الإنساني يتصف بخلوه من المعرفة في البداية وهنا يتوافق مع أرسطو الذي يرى بأن نفس الإنسان في حالة الطفولة تكون في وضع وجود بالقوة، والوجود بالقوة وهي استعداد محض، وهي صفحة بيضاء لم يكتب فيها شيء، ثم تبدأ المعرفة بالإدراك الحسي للجزئيات ثم الإدراكات الكلية العقلية. ولكنه يتجاوزه ؛ ويبدأ مع لوك ويتخطاه بعيدا فهو يرفض الخاصة الانفعالية للذهن كما يذهب لوك لأن المعرفة لا يمكن أن تصدر عن مجرد الإحساس الذي يكون مجرد عنصر في عملية المعرفة. ويرفض أيضا الرؤية المثالية للمعرفة ويوجه إليها نقدا شديدا: إذ لا توجد معرفة فطرية أولية سابقة للتجربة، فمفاهيم الزمان والمكان ومبدأ عدم التناقض والهوية تولد في دائرة الفعل الإنساني والتجربة الإنسانية وهي تولد وتنمو عبر مراحل زمنية متلاحقة ومتداخلة أحيانا. فالفعل الإنساني هو الذي يشكل هذه المفاهيم وينميها([55]). فالمعرفة الإنسانية تكوين يشتمل على معطيات الحس وعلى صيرورات عقلية ذهنية داخلية وبين هذا وذاك تلعب التجربة الذهنية ذات الطابع الإبداعي دورها الأكبر في تشكيل رؤية الإنسان للعالم.
في مفهوم المنهج التكويني Génétique:
يغلب مفهوم البنائية أو التكوينية على نظرية بياجيه حيث تلقب نظريته المعرفية بالنظرية التكوينية أو البنائية في المعرفة. فالتكوين Genetic مفهوم يدل على كينونة الظاهر، ويعود هذا المفهوم في الأصل إلى فكرة جوهرية عند بياجيه قوامها التعرف على ظاهرة النماء العقلي وتطور الذكاء وفق رؤية تكوينية، أي الوضعية التي يتكون فيها هذا الذكاء ويتشكل لحظة بعد لحظة ومرحلة بعد مرحلة. فالمنهج التكويني هنا هو دراسة ظاهرة من الظواهر عن طريق ملاحظة تشكّل عناصرها وتطورها في مسار تكويني.
إن المنهج التكويني (Génétique) الذي يتبناه بياجيه يتحدد بدراسة نمو المعرفة وفقا لصيروراتها السيكولوجية عبر مراحل متلاحقة، وهو يؤكد في دائرة هذا المنهج على أهمية الكيفيات التي يعتمدها العقل في توليد المعرفة في كل مرحلة من مراحل تشكل العقل وتكوّنه. فبياجيه يراقب حركة الانبناء المعرفي منذ اللحظات الأولى لولادة الطفل ويحدد صيروراته وآلياته وقوانينه. إنه عبر منهجه هذا يرسم لنا المشهد النمائي للمعرفة بكل ما ينطوي عليه هذا المشهد من سحر وجمال وذلك بطريقة علمية رياضية، وهو في وصفه هذا يبدد مختلف أشكال الغموض الذي ينتاب هذا النمو، ويحدد لنا أدق الخصائص الأساسية له بأشكاله المنطقية والاشراقية والعقلية في نسق متكامل ن التصورات العلمية. ويرتبط مفهوم التكوين بمفهوم البنية الذي يخضع بدوره لقانونية التطور والتحول. فالتكوين هو عملية انتقال من حالة بنائية إلى حالة أخرى ومن وضعية إلى ما يليها. وعلى هذا الأساس يحصل تطور الطفل العقلي فهو ينتقل من الوضعية (أ) إلى الوضعية (ب) ومن الوضعية (ب) إلى الوضعية (ج) وهكذا دواليك حتى يصل إلى مرحلة الاستقرار في مرحلة النضج ([56]).
مصادر المعرفة (Sources de Connaissance):
يرى بياجيه أن الإنسان لا يولد مزوداً بالمفاهيم والإدراكات والمسلمات المنطقية كما يعتقد أصحاب النزعة العقلية. ويرفض بياجيه الفكرة التي تقول بأن الطفل يدرك منذ لحظة ولادته مفاهيم الزمان والتتابع والقبل والبعد. فالطفل عندما يرضع من ثدي أمه، وحين يشعر بالشبع يترك ثدي الأم، وبعد ذلك حين يشعر بالجوع يبحث عن الثدي من جديد، ولكن هذا لا يعني أبدا أن الطفل يدرك مفهوم التتابع في الزمان، أي أنه إذا رضع فإن ذلك يؤدي به إلى الشبع لاحقا. فالطفل يفعل ما يفعله بطريقة غريزية، لا علاقة لها بالإدراك على الإطلاق، والطفل كما يبين بياجيه يحتاج إلى وقت وإلى مدة حتى يبدأ في تلقن وفي تعلم هذه المفاهيم شيئاً فشيئاً بطريقة تطورية([57]).
يرى بياجيه أن البيئة تشكل مصدرا حيويا للمعرفة، وبالتالي فإن معرفة الإنسان ناجمة عن عما يتعلمه من بيئته الاجتماعية والمادية أي من عالم الناس والأشياء. فالبيئة تشكل مصدرا ثرا للمعرفة، ولكن المعرفة الحقيقية تتكون وفق نموذج ذهني بنائي فاعلي يرتكز على عدة عمليات ذهنية ضرورية: عملية التنظيم Organization، وعملية التكيف Adaptation، وعملية المواءمة Accommodation، وأخيرا عملية التمثل Assimilation، وعملية التوازن Equilibration.
يقوم الطفل في عملية التنظيم Organization بعمليات تصنيف وترتيب للأشياء والمفاهيم والأحداث في نظام نتكامل منطقيا في عقل الطفل. فعندما يجمع الطفل الصغير بين مهارتين مستقلتين في سلوك واحد مثل ( النظر إلى شيء ) و ( القبض على شيء ) تتولد لديه مهارة جديدة هي مهارة ( التقاط شيء يقوم به ) وهذا يعني أن الطفل صنف هذه المهارات وكامل بينها ورتبها منطقيا ودمج بينها ليحقق مهارة جديدة تقوم على أساس مهارات سابقة: بين النظر والقبض على الأشياء ([58]). وتتضمن عملية التكيف Adaptation عمليتين أساسيتين هما: عملية المواءمة Accommodation، وأخيرا عملية التمثل Assimilation.
عملية المواءمة Accommodation:
تعني المواءمة العملية التي يعتمدها الفرد في تنظيم المعلومات في نظام معرفي غير متناقض. وهي لا تنجم عما يراه الإنسان، بل إنها تساعد الإنسان على فهم ما يراه. وعن طريق هذه القدرة الموروثة التي نطلق عليها اسم الموازنة يمكننا تدريجياً الاستدلال على الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء في هذا العالم. وبعبارة أخرى تعني المواءمة تغيير سلوك الفرد ليتوافق مع عناصر البيئة: فالرضيع يوائم فمه ليتناسب مع المصدر الذي يرضع منه أكان ثدي الأم أو الرضاعة. ومن الواضح أن بياجيه يستمد هذين المفهومين (المواءمة والتمثيل من العلوم البيولوجية ) فالإنسان يعمل على إيجاد الطعام ثم يتناوله ( يمضغه يقطعه فالأسنان يجب أن تعمل والشفاه يجب أن تتحرك والبلعوم يجب أن يبتلع الطعام ) هذه العمليات هي نوع من المواءمة وبعد أن يتحول الطعام إلى مادة ممضوغة يقوم الجسم بتمثل هذا الطعام ويقوم بتعديل ذاته وفقا للمادة الغذائية التي يتمثلها. كذلك هو الحال بالنسبة للإنسان فيما يتعلق بالذكاء فالإنسان يأخذ من البيئة معلومات يحتاجها يستهلكها بطريقة القراءة والتفكر والبحث، وهذه مواءمة، ثم يتمثل هذه المعلومات ويكونها في عقله أو بنيته الذهنية عبر توازن جديد توازن جديد للمعلومات الجديدة. والعلاقة بين المواءمة والتمثل علاقة جدلية فكل عملية تمثل هي موائمة وكل موائمة هي عملية تمثل بحد ذاتها. وعبر هاتين العمليتين تحدث عملية التكيف Adaptation.
ويمكن تشبيه وضعية الموائمة والتمثل بمثال آخر: لو افترضنا بأننا رمينا حجرا صغيرا في بركة ماء صغيرة فإن الماء سيحدث تموجات متتابعة ( موائمة)، وهذه التموجات تحاول أن تستوعب الصدمة التي أحدثها الحجر، وبعد قليل تهدأ هذه التموجات ويكون الماء قد اعتدل وزاد حجمه في كلية الماء الذي يوجد في البركة أي أن التوازن قد حصل والتمثل أيضا.
عملية الموازنة Equilibration:
تهدف عملية الموازنة في نظرية بياجيه تجاوز مختلف أشكال التناقضات وإعادة التوازن الذهني عندما يتعرض الذهن لاضطراب معين، ويحدث ذلك عندما يشعر الإنسان بتوتر ذهني أو قلق معرفي أو بحالة مفارقة للوضعية العادية. فالطفلة التي تتوقع بأن كمية محددة من الماء التي تصب في كأس قصير عريض سيصل إلى نفس المستوى إذا ما صب في كأس آخر طويل، تصاب بحالة من التوتر المعرفي والاضطراب الذهني disturbance Mental عندما تلاحظ أن مستوى الماء في الكأس الثاني ( الطويل والرفيع ) قد وصل إلى منسوب أعلى منه في الكأس الأول العريض. وتدل هذه الحالة على وجود تناقض وصراع بين ما هو متوقع وما هو ملاحظ في حقيقية الأمر. وهذا الاضطراب أو التوتر المعرفي يطلق بعض الفعاليات الذهنية الجديدة لخفض التوتر وتخفيف حدة التناقض والاضطراب. فقد تعيد الطفلة الصغيرة صب الماء في الكأس العريض وتعيد التجربة مرارا كي تتأكد من أنها لم تكن مخطئة في نظرتها إلى مستوى الماء في الأصل. وفي ختام الأمر، ومن خلال أنماط أخرى من التنظيمات وبعد اكتساب العديد من الخبرات من الحياة اليومية فإن الفتاة تبدأ في فهم السبب الذي يجعل من مستوى الماء في الكأس الطويل الضيق أعلى منه في الكأس القصير المتسع.
والتكيّف، وهو الهدف النهائي لعملية الموازنة، وينطوي التكيف على التفاعل بين عمليتين فرعيتين هما التمثل والمواءمة كما أشرنا أعلاه. وهاتان العمليتان ليستا أكثر من شكلين آخرين من أشكال التنظيم. فالتمثل (Assimilation) عملية تغيير الخبرات الجديدة إلى خبرات مألوفة والتمثل وحده، أو التمثل بدون المواءمة، من شأنه أن يشوه الخبرة الجديدة.
فالطفلة التي أشرنا إليها في المثال السابق قد تقول، عندما ترى أن مستوى الماء قد هبط عند إعادة صبه في الكأس العريض “إن بعض الماء قد تسرب عند إعادة صبّه “. أما المواءمة (Accommodation) فهي عملية الانتباه التي توجه إلى التجربة الجديدة وبصورة مستقلة عن الخبرات السابقة. والمواءمة بدون التمثل قد تؤدي إلى نتائج خاطئة كأن تقول الطفلة “نعم إن الماء يكون على مستوى منخفض أحياناً وعلى مستوى مرتفع أحياناً أخرى”. وفي هذه الحالة فإن الطفلة توائم فقط ما هو ماثل أمامها بدون أية محاولة لتمثل ما هو ماثل في الخبرة السابقة. فالتعادل بين التمثل والملائمة ضروري للطفل كي يستطيع الوصول إلى تفسير للحوادث الماثلة أمامه ويكون أكثر دقة وأكثر تكيفاً.
مثال حيوي لصيرورة العمليات الذهنية:
يمكن لنا أن نستعرض مثالا يستوعب مختلف العمليات السابقة من التنظيم والتكيف بشقيه المواءمة والتمثل. وهذا المثال تمّ عرضه من قبل بيهلر Beihler ([59]) حيث يبين لنا وضعية طفل صغير يرى الكرة للمرة الأولى في حياته:
الطفل أمام الكرة، يشاهدها للمرة ألأولى في حياته، وهو قبل أن يشاهدها، يمتلك بعض الخبرات الحسية التي تنتظم في تفكيره، فهو قادر على أن ينظر إلى الأشياء التي توجد أمامه، ويمتلك القدرة على مسك الأشياء غير المستديرة والقبض عليها، فهو قادر مثلا أن يأخذ رضاعته ويمصها، ولكنها هي المرة الأولى التي يواجه فيها شيئا جديدا وهو كرة مستديرة فكيف يتعامل معها. يحاول الطفل وفقا لخبراته السابقة أن يمسك بالكرة أن يقبض عليها لكن الكرة تتزحلق وتبتعد عن متناول يديه، يتبعها ويحاول أن يقبض إلا أنها تنتقض وتدور ثم تبتعد عنه من جديد، يدرك الطفل الآن أنه أمام شيء جديد غير مألوف ويدرك بأن مهاراته السابقة لا تساعده في الإمساك بها. وهنا يصاب بحالة من القلق والتوتر ويحاول أن يتكيف مع الموقف الجديد وأن يجد طريقة يلحق بها بالكرة ويمسكها، فيحاول مرارا أن يأخذ وضعيات مختلف للإمساك بها، وبعد لأي وجهد كبير يستطيع أن يأخذها بكلتا يديه وأن يضغط عليها بباطن كفيه وأن يرفعا في النهاية ويضعها في فمه. وهكذا يكون الطفل قد نظم وتكيف عبر عمليتي المواءمة والتمثل. وأصبحت لديه خبرة كلية جديدة في الإمساك بالأشياء أي أنه اكتسب مهارة وهذه المهارة أصبحت جزءا في بنية المهارات السابقة. وهذا يعني أن منظومة مهاراته السابقة قد أفسحت المجال لمهارة جديدة تتكامل معها. وبعبارة أخرى أصبح لديه مخطط جديد في طريقة الإمساك بالأشياء والتعامل معها وإن كانت في المرات القادمة دائرية. وهذا يعني أن الطفل ما أن يرى دائرة حتى يتمكن من أن يأخذها بكلتا يديه بسهولة واضحة.
وإذا كانت الكرة التي أمسك بها هي أول كرة يقابلها وكان لونها أحمر وصغيرة الحجم فإنه سيعتقد بأن هاتين الصفتين تنطبقان على جميع الكرات، أي أن الكرات جميعها ستكون حمراء وصغيرة. وعندما يقابل كرات جديدة من أحجام مختلفة وألوان مختلفة يتسع مخطط إدراكه لمفهوم الكرة أو يتطور مفهوم الكرة لديه لجميع الأحجام ولجميع الألوان ولجميع الحركات التي يمكن أن تحرك الكرة مثل: النط والطبطبة والاندفاع والدحرجة والقفز والارتداد. وهكذا نلاحظ أن المفهوم ينمو مع عاملي الزمن والتجربة وكل تجربة سابقة تعزز بتجربة لاحقة إلى أن يصبح المفهوم كاملا عبر عمليات التكيف والتنظيم والمواءمة.
أنواع المعرفة Types de Connaissances:
يميّز بياجيه بين نوعين من المعرفة: المعرفة الشكلية والمعرفة الإجرائية البرهانية.
المعرفة الشكلية: يتمثل النوع الأول في المعرفة الشكلية (Connaissance Formelle) وهي تشير إلى معرفة المثيرات الشكلية الظاهرة. فالطفل الرضيع يرى ثدي أمه أو حلمة الرضاعة فيفتح فمه ويبدأ بعملية الرضاع، أو يشاهد أمه تتحرك أمامه فيبتهج ويحرك يديه ويبتسم لها، والولد يرى أبيه قادما فيهرع إليه ويرتمي في أحضانه، أو قد يشاهد مائدة الطعام فيجل إليها منتظرا حضور الطعام وعندما يرى التلفزيون يشاهد البرامج التي يرغب بها. وهذه المعرفة تعتمد على إدراك المظاهر الخارجية للأشياء والظواهر التي تشكل مثيرات ومن هنا جاءت تسميتها بالمعرفة الشكلية لأنها لا تنبع من المحاكمة العقلية.
المعرفة الإجرائية: ويطلق بياجيه على المعرفة التي تأتي من خلال من المحاكمة العقلية اسم معرفة إجرائية (Connaissance Opérative) وهي معرفة برهانية استدلالية في مستوياتها المختلفة. ففي مثال الكأسين السابقين عندما يقوم الطفل بالتجربة والتأمل ويصل إلى تحقيق التوازن سيعرف بأن كمية الماء الواحدة وأن شكلها يختلف باختلاف الأوعية التي تصب فيها. وسيدرك بأن الكأس العريض أكثر مساحة عرضانية من الكأس الرفيع، وعندما يستدل بالبرهان العقلي تتحول هذه المعرفة إلى معرفة إجرائية. وفي مثال آخر عندما توضع كرة الجولف وسط مجموعة من البلى (الدحل ) التي يلعب بها الأطفال فإن كرة الجولف ستبدو كبيرة الحجم مقارنة بالبلى. وعندما يدرك الطفل بأن الأجسام لا تغير حجمها بسبب تغير مكان تواجدها فإن كرة الجولف هذه ليست الآن أكبر حجماً مما كانت عليه من قبل وعندها فإن هذه المعرفة تصبح معرفة عقلية برهانية أو كما يطلق عليها بياجيه معرفة إجرائية. وهنا سنلاحظ أننا عندما نتحدث عن أنواع المعرفة فإن الوصول إلى المعرفة البرهانية أو الإجرائية سيكون في المرحلة الثالثة من نمو الطفل أي في المرحلة التي يطلق عليها بياجيه المرحلة الإجرائية Stade opérationnel. وهي المرحلة التي تقع بين السابعة والثانية عشرة من العمر.
مظاهر النمو العقلي عند الطفل:
كرس بياجيه كما هو معروف جهده في اختبار نظريته البنائية في مجال النمو العقلي عند الأطفال. وهذا يتضح في أغلب الدراسات والأبحاث التي قدمها في مختلف مراحل نشاطه العلمي. والحق يقال أن اهتمام بياجيه بالأطفال وبالعملية المعرفية لديهم جاء بمحض مصادفة علمية بسيطة من حيث المبدأ ولكنها في غاية الأهمية من حيث النتيجة إذ كانت في أصل ولادة نظرية بياجيه في علم النفس التكويني أو البنائي.
وقد جاءت هذه المصادفة في الوقت الذي طلب فيه تيودور سيمون Théodore-Simon ([60]) من بياجيه تقنين بعض اختبارات الذكاء التي صممها عالم النفس الإنكليزي سيرل بيرت Cyril-Burt ذلك من أجل تطبيقها على الأطفال الفرنسيين. وكانت هذه الاختبارات مملة بالنسبة لبياجيه ولكنه أثناء تطبيق الاختبار اكتشف ملاحظة هامة مفجرة للتساؤل وقوامها أن الأطفال كانوا لا يستطيعون الإجابة بشكل صحيح عن السؤال التالي: لون بشرة هيلين أكثر سمرة من لون بشرة روز، ولون بشرة روز أسمر من لون بشرة جويس. من منهن تكون بشرتها أقل دكنة واسمرارا ؟
وكان جواب الأطفال: كلهن شعرهن أصفر. ولم تكن الإجابة الخاطئة هي مدار اهتمام بياجيه بل كانت العمليات العقلية التي تعتمل داخل الطفل والتي تجعله يقدم إجابة غريبة على هذا النحو. وأطلق بياجيه فرضية تاريخية قوامها أن التكوين العقلي الخاص بالطفل يشكل منطلق هذه الإجابة الخاطئة وعن تكرارها. وبعبارة أخرى هناك في عقل الطفل فعاليات خاصة تختلف عن التكوينات والفعاليات التي نجدها في عقل الراشد وهي المسؤولة عن نمط الإجابات التي يقدمها الطفل في أغلب الحالات، وهي إجابات تثير دهشة الراشدين وعجبهم واستنكارهم في الوقت نفسه. وقد شكلت هذه الوضعية الذهنية للطفل المادة الأساسية لأعمال بياجيه الذي أراد أن يكتشف طبيعية تفكير الطفل وأن يبدد الغموض الذي يحيط بعملية تشكله الذهني وأن يرسم القانونية الحاكمة لعملية نمو الأطفال عقليا وذهنيا.
وتبدأ رحلة بياجيه العلمية في تفسير التكوين المعرفي عند الطفل من منطلق رفضه – كما أوضحنا سابقا – لفكرتين أساسيتين حول تشكل المعرفة: فالأفكار لا تسبق التجربة كما يرى كانط، وفي المقابل فإن الأفكار لا تولد من مكنون التجربة الحسية على منوال الانطباعية التي يذهب إليها جون لوك في تأكيده على أن الذهن صفحة بيضاء. وعلى خلاف الرؤيتين يرى بياجيه في فرضيته العلمية أن المعرفة عند الطفل هي عملية بناء وانبناء وتكوين تتميز بالخصوصية والتفرد. فالطفل يمتلك على فعاليات عقلية داخلية متنامية تؤدي إلى توليد المعرفة توليدا متناميا عبر الزمان والمكان والتجربة. فالمفاهيم تولد في عقل الطفل وتنمو وتتصاعد وتتكون وتكبر مع تنامي نموه العضوي والنفسي والتجريبي. فالطفل ينتقل من مرحلة نمو إلى أخرى عندما تنطلق في داخله فاعلية ذهنية كانت أسيرة في المراحل السابقة من تطوره([61]).
واستطاع بياجيه عبر الجهود الكبيرة والأعمال العلمية المستمرة والمتواترة التي قدمها في ميدان الذكاء ونمو المعرفة أن يقدم نظرية متكاملة ومتفردة حول النمو المعرفي لدى الأطفال. ولهذه النظرية شقان أساسيان مترابطان يطلق على أولهما الحتمية المنطقية Logical-determinism ويطلق على ثانيهما البنائية Constructivism. ويختص الشق الأول بافتراضات بياجيه عن العمليات المنطقية Logical-Operations، وبتصنيفه لمراحل النمو العقلي للطفل بناء على تلك العمليات إلى المراحل الأربعة الأساسية “( مرحلة التفكير الحركي- الحسي – مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية – مرحلة العمليات الإجرائية – مرحلة العمليات الصورية المجردة)([62]).
والشق الثاني من نظرية بياجيه في النمو المعرفي يتعلق بمسألة “بنائية المعرفة” وفيه أوضح بياجيه مبدأ بنائية المعرفة، بتأكيده على دور الفرد والعقل نفسه في بناء المعرفة وتكوينها وتشكيلها على خلاف ما تذهب إليه مدرسة الانطباعية الحسية، فالعقل ليس وعاء فارغاً تسكب فيه المعرفة ويتحدد بالانطباعات الحسية الخارجية على نحو سلبي بل هو عقل نشط فاعل متمرس ينمو وتنمو فيه قدرات منطقية كبيرة وفاعليات سيكولوجية هامة تؤدي إلى ولادة المعرفة ونشوئها.
في مفهوم الذكاء عند الطفل:
ينتهج بياجيه فنا علميا جديدا في تعريفه للذكاء ونمو القدرات العقلية عند الطفل. فالذكاء عند بياجيه هو شكل من أشكال التكيف المتقدم وهو يتطور عبر عمليتي المواءمة والتمثل. والذكاء لا يظهر فجأة بل على نحو متدرج لأنه عملية توازن وتكيف مستمر يهدف إلى تجديد المخططات العقلية والأنظمة الفكرية. فكل خبرة جديدة تسهم في تطور ذكاء الإنسان وكل مهارة تطلق إمكانيات جديدة ومهارات أخرى أكثر جدة. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف الذكاء بأنه ” رحلة إنسانية خاضعة لحسابات دقيقة تبدأ من عالم المحسوسات وتنتهي عند عالم التصورات والمجردات” ([63]).
فالذكاء نوع من التوازن تسعى إليه مختلف العمليات العقلية المتفاعلة داخل بينة الإنسان الذهنية. ويأخذ الذكاء طابع المغايرة نظرا لتغير المؤثرات البيئية المحيطة بالإنسان ولذلك فإن تفاعلها مع العمليات العقلية والذهنية يحدث على نحو متغير وهو تغير يأخذ طابع الاستمرارية. وينبني على ذلك أن تحقيق التوازن العقلي عملية دينامية مستمرة لاتصل إلى غاية نهائية محددة. ولا يمكن لعملية تطور الذكاء أن تحدث إلا في الوقت الذي يتم فيه تمثل المؤثرات الخارجية وإحداث تغيير في البنية العقلية والذهنية. وبعبارة أخرى نمو الذكاء مرهون بتغيير التنظيمات والمخططات الذهنية بناء على معطيات حسية جديدة. ولا يمكن للذكاء أن يتحقق إلا بموجب الاحتياجات والقابليات الأساسية للطفل. فلا يمكن مثلا تعليم الطفل أشياء مجردة إلا في المرحلة التي تنضج لديه العناصر الذهنية التجريدية. ويتم نمو العقلية دائما وفقا لمبدأ التناقض بين البنية العقلية والموقف الذي يواجهه الطفل حيث يجد الطفل نفسه مكرها على تحقيق التوازن الذهني والخروج من دائرة التناقض وهذا يعبر عن فعالية عقلية داخلية عند الطفل. وباختصار شديد يبين بياجيه في أغلب أعماله أن النمو العقلي عند الطفل يأخذ صورة عملية ذهنية نشطة، وأن الذكاء قابل للنمو والتطور.
ويحدد بياجيه أربعة عوامل أساسية لنمو الذكاء وتطور العملية البنائية للمعرفة، وهي:
1- العامل البيولوجي العصبي: وهو عامل ضروري وقطعي ولا يمكن دحضه، فلا يوجد هناك ذكاء أو تكوينات معرفية منفصلة عن النمو الدماغي والعصبي الذي يشكل وعاء كل نضج وكل فعالية عقلية أو ذهنية.
2- عامل التدريب والخبرة: وهو عامل ضروري أيضا وشرط لازب في أي تكوين معرفي، وهو عامل شديد التعقيد والصعوبة ولا يمكنه أن يفسر كل شيء في عملية نمو الذكاء.
3- العامل الاجتماعي: لأن الخبرة والمعرفة تكتسب من خلال تفاعل الطفل مع الوسط الاجتماعي ومن غير الوسط تحال المعرفة على مبدأ الاستحالة. فالوسط بتفاعلاته يشكل مصدرا حيويا وهاما من مصادر المعرفة. فاللغة على سبيل المثال وهي اجتماعية الأصل والجوهر تؤثر في تمكين الطفل من الاكتساب المعرفي وتعجل من عملية نمو الذكاء عند الطفل..
4- العامل السيكولوجي: وهم أيضا من العوامل الجوهرية ويشتمل على مختلف الفعاليات العقلية التي تتعلق بالتوازن والتكيف بشقيه المواءمة والتمثل. وسنأتي على شرح مفصل لهذه العوامل أدناه.
مراحل التطور العقلي عند الطفل:
ينطلق بياجيه من قاعدتين أساسيتين في تفسر التكوين العقلي عند الطفل وهما:
– يولد الفرد وهو مزود بخاصية النمو الفطري الوراثي. فالنمو خاصة وراثية فطرية.
– لا يمكن تعديل مسار النمو عند الطفل لأنه فطري ووراثي.
فالنمو عند الطفل يتسم بأنه فطري وتطوري وحتمي أيضا. وهذا النمو يتم عبر مراحل متعددة وأساسية في عملية نمو الطفل. وكل مرحلة من هذه المراحل تعكس مجموعة من الأنماط السلوكية التي تتكامل في نسق من المراحل النمائية المتلاحقة في عمر الطفل. ويضع بياجيه منظومة من المبادئ الناظمة لعملية النمو وأهمها([64]):
- تأخذ عمليات النمو طابع الاستمرارية في مختلف المراحل النمائية.
- يحدث النمو وفقا لعمليتي التعميم والتخصيص أي أن هذا النمو يتم وفقا لعمليتي الكشف عن أوجه التشابه وأوجه الاختلاف في الظواهر وتأخذ هاتان العمليتان طابع الديمومة في مختلف مستويات النمو ومراحله.
- تتضمن كل مرحلة تكرارا للعمليات التي تمت في المراحل السابقة ووفق تنظيمات مختلفة.
- يأخذ النمو اتجاها متصاعدا تراكميا وهذا يعني أن الخبرات تتزايد وتتكامل وتتكاثف.
- هناك وحدة في إمكانيات النمو. فكل فرد يمكن ضمن شروط مثالية أن يحقق أعلى درجات النمو. ولكن الأفراد يحققون نموهم بصورة متفاوتة أيضا في داخل هذا الترتيب التصاعدي. وهنا يؤكد على الفروق الفردية التي تعود لتباين الظروف والأحوال والتجارب. ويؤكد على أن الإمكانية واحدة للجميع.
ويحدد بياجيه أربع مراحل أساسية متتالية من مراحل التطور العقلي عند الطفل. ويرى كل مرحلة منها مسئولة عن نوع معين من أنواع التفكير وهذه المراحل هي ([65]):
1- المرحلة الحسية – الحركية: Sensorimotor:
تبدأ هذه المرحلة بالولادة وتنتهي في الثانية من عمر الطفل. ويكون سلوك الطفل عبارة عن أفعال منعكسة حسية بالدرجة الأولى وتنتهي هذه المرحلة عندما يبدأ الطفل باستخدام اللغة وتعلم الكلام أي في نهاية السابعة من العمر. وتتميز هذه المرحلة بطابعها الاستكشافي لأن الطفل يحاول أن يتعرف حسيا على العالم الخارجي الذي يحيط به، فهو يكون فكرة عن المسافات عندما يمد يده لالتقاط شيء ما، ويكون فكرة عن تأثير جسده بالأشياء عندما يحركها ويدفعها، ويتعرف على خصائص الأشياء عندما يلمسها ويتحسس برودتها وسخونتها، ويستخدم بصره في التعرف على الألوان والأحجام وكل ما يتصل ببيئته المباشرة.
فالطفل في بداية هذه المرحلة لا توجد لديه فكرة عن ثبات الأشياء وديمومتها أي لا يدرك بأن الأشياء موجود بالفعل إذ غابت عن ناظريه. فعندما نأخذ لعبة طفل في الشهر الثامن من عمره ونخفيها عن ناظريه فإن الطفل لا يبحث عنها ولا يبدو عليه الانزعاج ويتصرف وكأن دميته لم تكن أبدا. وهذا يعني أن الطفل يعتقد بأن وجود الشيء واستمراريته تكون بمدى ظهوره أمام عينيه. ولكن الطفل نفسه عندما يبلغ الشهر الحادي عشر من العمر يستطيع أن يدرك بأن الأشياء تستمر في الوجود رغم غيابها عن ناظريه وهو في هذا العمر يبحث عن لعبته عندما نخبئها في مكان ما، ولكنه يبحث عنها في الأماكن التي اعتاد أن يراها فيها ولا يبحث عنها في أماكن أخرى مختلفة إلا في نهاية هذه المرحلة إي في نهاية السنة الثانية من عمره. كما يبحث عن أشيائه التي لا يراها ويبدي انزعاجا وغضبا لغيابها. وهذا يعني أن الطفل في هذه المرحلة بدا يكون مفهوم ” ثبات الأشياء وديمومتها ” وهو مفهوم يولد مع التجربة ومع ظهور الأشياء المخفية دائما. غياب الشيء وحضوره وتناوب ذلك يؤدي إلى ولادة هذا المفهوم عند الطفل.
في هذه المرحلة يتعلم الطفل بالإضافة إلى مفهوم “استمرارية الأشياء” مفهوم “انتظام الأشياء” ومفهوم ” حركة الأشياء “. وهو عبر فعاليات جسدية متنوعة مثل المسك والضرب وتحريك القدمين والمص والنظر إلى الأشياء ورميها بعيداً وتحريكها يعمل على بناء نظام من التصورات الأولية التي تتصل بالظواهر المادية المحيطة به. فالشيء الذي يخبأ تحت الوسادة يمكن الحصول عليه ثانية. وقطعة النقود التي تنتقل إلى من يد إلى أخرى تصبح في مكان جديد، والصوت الذي يسمعه ينبعث من مكان ما، والأم التي تغيب ستعود إليه. وباختصار يحقق الأطفال في نهاية هذه المرحلة تجربة بنائية هامة في بناء منظومة من المفاهيم الأساسية التي تتعلق بالأشياء وذلك بصورة حسية حركية.
2- مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية Pre–operational:
تبدأ هذه المرحلة من نهاية السنة الثانية وتمتد حتى نهاية السنة الخامسة من العمر.
في هذه المرحلة “تنمو الفعالية الرمزية مجسدة في اللعب التخيلي أو الإيهامي حيث تبدو العلبة قاربا والمكعب سيارة والعصا بندقية ” ([66]). و يكتسب الطفل في هذه المرحلة القدرة على تمثيل الأشياء والأحداث برموز كاستخدام اللغة. ولكن تفكره ما زال يرتبط بخبرته المباشرة ومتمركزا حول ذاته وهذا يعني أنه ما زال يخلط بين الذات والأشياء التي تحيط به. فهو لا يدرك وجهات نظر الآخرين ولا يستطيع أن يضع نفسه في مكانهم، والطفل في هذه المرحلة لا يستطيع أن يفكر في شيئين مختلفين في وقت واحد.
من أهم خصائص التفكير في هذه المرحلة أن الطفل لا يدرك ظاهرة ” ثبات خصائص الأشياء”. فعندما نضع، بحضور الطفل، كمية من الماء في إناء واسع القاعدة في (كأس عريض)، ثم نفرغ الكمية نفسه التي وضعناها في الإناء العريض في إناء طويل ضيق القاعدة ( كأس رفيع وطويل)، فإن الطفل يعتقد أن كمية الماء في الإناء الطويل أكثر من الكمية التي كانت في الإناء العريض. أي أن الطفل لا يدرك أن الكمية لا تتغير عندما يتغير الشكل أو عند تقسيمها إلى أجزاء، لذلك فإن البعض يطلق على هذه المرحلة اسم ” مرحلة ما قبل التفكير المنطقي “([67]).
وعندما نقوم بتشكيل قطعة من المعجون على شكل كرة، ثم نعود فنشكل القطعة نفسها في صورة عصا طويلة فإن الطفل يعتقد أن كمية المعجون في العصا أكثر من كميته في الكرة. وهذا كله يعني أي أن الطفل لا يدرك مفهوم الكتلة وقابلية الأشياء للتشكل في صيغ متعددة دون أن تفقد من حجمها أو وزنها.
وفي هذه المرحلة يصبح الطفل أكثر وعيا بالأشياء والمفاهيم التي تمثلها في المرحلة الحسية الحركية السابقة. ويكتسب الأطفال طلاقة لفظية في التعبير الرمزي والإيماءات الجسدية، ومع ذلك فإن هذه الإمكانية اللغوية والطاقة الرمزية لا تمكن الطفل القيام بالاستدلال الاستنتاجي أو التوصل إلى النتائج التي تكون صحيحة وفق المقتضيات المنطقية، ومن هنا جاءت تسمية هذه المرحلة ما قبل الإجرائية. ويمثل هذا المستوى في نهاية الأمر ” بنية عقلية بدائية أو نمط من التفكير السابق على التفكير الاستدلالي البرهاني”([68]).
ويلاحظ في هذا المستوى غياب قدرة الطفل على التفكير الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي. ويمكن لهذا المثال أن يوضح هذه الفكرة:
– أراد الطفل (أ) أن يساعد والده في العمل فأخذ قلم الحبر ليملأه من الدواة فسقطت منه قطرة كبيرة لطخت أبيض المفرش وكان الطفل يريد أن يساعد أبيه.
– بدأ الطفل (ب) يعبث بأغراض أبيه وأدواته المكتبية فأخذ قم الحبر يلعب به فسقطت منه قطرة صغيرة جدا على المفرش.
– رويت القصة على أطفال في رياض الأطفال ( عمرهم في المرحلة ما قبل الإجرائية) أي الطفلين كان خطؤه أكبر. فأجاب الأطفال أن خطأ الطفل الأول (أ) أكبر من خطأ الطفل (ب). هذا مع أن الطفل الأول كان يساعد والده والطفل الثاني كان يعبث بأغراضه.
والسؤال هنا لماذا أجاب الأطفال بأن خطأ الطفل (أ) الذي كان يساعد والده أكبر من خطأ الطفل (ب) الذي كان يعبث بأشياء أبيه ؟ الإجابة بسيطة وهي أن الأطفال في المرحلة ما قبل الإجرائية لا يستطيع أن يركز إلا على شيء واحد في وقت واحد ونقطة التركيز هنا كانت حول بقعة الحبر وليس على الجانب الأخلاقي للسلوك. فالبقعة التي تركها الطفل (أ) هي أكبر من البقعة التي سببها الطفل (ب) ولذلك فإن الخطأ يوزن بحجم كمية الحبر التي سقطت من القلم. وهنا أيضا نجد بأن الأطفال يركزون في هذه المرحلة على الجانب المادي في الأشياء وليس على الجانب المعنوي وهذا ما يطلق عليه بياجيه مفهوم ” الواقعية الأخلاقية “([69]).
3- مرحلة التفكير الحسي-الإجرائي Concrete Operational:
تمتد هذه المرحلة من سن السابعة إلى سن الحادية عشرة. في هذه المرحلة يتمكن الأطفال من تطوير مفهوم ” ثبات خصائص الأشياء ” كمفاهيم الطول والكتلة أو الكمية والعدد. طفل هذه ا لمرحلة يصبح قادراً على إجراء عمليات التصنيف البسيطة كتصنيف الأشياء الحية وغير الحية، أو تصنيف مجموعة أشياء على أساس بعدين كاللون والشكل، وإجراء العمليات الرياضية البسيطة كالجمع والطرح والضرب والقسمة، كما يبدأ في تكوين مفهوم الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل.
في هذه المرحلة الإجرائية المحسوسة (Concrete Operational Period) يطور الأطفال قدراتهم على التفكير المنطقي الاستدلالي، ويأخذ هذا التفكير المنطقي والاستدلالي طابعا حسيا وهذا يعني أن التفكير هنا ينحصر ضمن نطاق ما الأشياء التي تقع تحت مجال وسيطرة أحاسيسه البصرية والسمعية. فالتفكير المنطقي يأخذ هنا طابعا حسيا ومن هذا المنطلق يسمي بياجيه هذه المرحلة “بالمرحلة الإجرائية الحسية “. وهي تسمية مشوبة بالغموض إذ كثيرا ما يخيل للدارسين أن بياجيه يعني بتسميته هذه التفكير الحسي وليس التفكير المجرد. ومن أجل توضيح هذه التسمية نقول بأن هذه المرحلة تجمع بين طرفين: فالتفكير مجرد ولكنه يقع في المجال الحسي الذي يحيط بالطفل. فالطفل هنا يدرس ويحلل ما يقع تحت بصره وفي مجال ما يسمعه. وهذا يدلّّ أيضا على أن الطفل لم يبلغ مرحلة التفكير المجرد الخالص الذي يمكنه من التفكير في الأشياء غير الموجودة أي في عالم الرموز والمفاهيم المنفصلة عن تجلياتها المادية. ونوضح ذلك بالمثال التالي: فمثلاً: إذا عرضنا على طفل هذه المرحلة مشكلة رياضية من نوع: إذا كان أحمد أطول من سعيد، وكان أحمد أقصر من إبراهيم، فمن هو أطولهم ؟ نجد أن معظم أطفال هذه المرحلة يجدون صعوبة في الإجابة، لكن إذا استخدموا رسوماً أو نماذج محسوسة للتعبير عن معطيات المشكلة يصلون إلى الحل، وعدم وصولهم إلى حل المشكلة شفوياً يدل على ضعف الاستدلال التجريدي لديهم. وهذا ما يبرر تسمية هذه المرحلة بالإجرائية الحسية.
في هذه المرحلة يستطيع الأطفال أن يستنتجوا منطقيا أن العصا (أ) أغلظ من العصا (ج) إذا قلنا لهم: بأن العصا (أ) أغلظ من العصا (ب) وأن العصا (ب ) أغلظ من (ج). ومع ذلك فإن محتوى الاستدلال في هذه السن يقوم على الأشياء الفعلية وليست المجردة.
وباختصار يستطيع الأطفال في هذه المرحلة تطوير مفهوم ” ثبات خصائص الأشياء ” كمفاهيم الطول والكتلة أو الكمية والعدد. ويصبحون أكثر قدرة على إجراء عمليات التصنيف البسيطة كتصنيف الأشياء الحية وغير الحية، أو تصنيف مجموعة أشياء على أساس بعدين كاللون والشكل، وإجراء العمليات الرياضية البسيطة كالجمع والطرح والضرب والقسمة، كما يبدأ يتكون مفهوم الزمن لديهم: الماضي والحاضر والمستقبل ([70]). ويبقى القول بأن الطفل يجد في هذه المرحلة صعوبة في الاستدلال الذهني المجرد، ويعاني من عدم قدرته على اكتشاف المغالطات الرياضية.
4- مرحلة التفكير المجرد Formal Operational:
تمتد هذه المرحلة من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة حيث يبدأ الطفل باستخدام التفكير المجرد أو الشكلي مدى الحياة، ويتمكن من التعامل مع الأشياء والأحداث بدرجة عالية من التفكير المجرد غير المحسوس. ويتخذ سلوك الفرد طابعا عقلانيا لا انفعاليا، ويتضاءل تمركزه حول الذات ويتمكن من التواصل بيسر مع الآخرين والوسط.
يتمكن الطفل في هذه المرحلة من استخدام مهارات التفكير الرمزي الاستدلالي المجرد. وعلى خلاف المرحلة الماضية يفكر الطفل تفكيرا مجردا عن الأشياء المحسوسة. في هذا المستوى لا يحتاج الطفل لوجود الأشياء من أجل أن يفكر فيها فهو يستطيع أن يفكر عبر الرموز والاستدلال المجرد الخالص. ويستطيع أيضا أن يحقق درجة عالية من التوازن والتكيف الاجتماعي. ويصف فاخر عاقل هذا التوازن الاجتماعي بأربعة مزايا أساسية([71]):
أ – يصبح العالم الاجتماعي للفرد موحداً تحكمه العقلانية لا الانفعال.
ب – يتضاءل التمركز حول الذات ليحل محله شعور بالتكامل الاجتماعي.
ج – يعتمد تطور الشخصية على قدرات الاتصال الذاتي للفرد بالآخرين.
د – يحل معنى المساواة محل الخضوع لسلوك ورغبات الكبار.
يقدم لنا بياجيه نموذجا نظريا لطبيعة تطور الأطفال ونموهم عبر المراحل الأربعة الآنفة الذكر. ولكن هذا النموذج ليس نهائيا ولا يمكنه أن يغطي واقع نمو الأطفال من مرحلة إلى أخرى. فالواقع أغنى من النظرية وأكثر صعوبة وتعقيدا. وهذا يعني أنه لا يمكن لنا تطبيق هذه النظرية بصورة جامدة على تنوع الواقع. فهناك مجال نسبي في عمليات التطور لا يتوافق مع معطيات النظرية. وهذا يعني أن نموذج بياجيه الأصيل في جوهره يفسح المجال نسبيا لمظاهر تتناقض مع شكل النظرية وليس روحها وجوهرها. ومن هذا المنطلق يسجل الباحثون والنقاد مجموعة من المفارقات حول طبيعة هذه المراحل وأهمها:
– يمرّ كل طفل بالمراحل الأربعة بصورة منتظمة في الجوهر ويفارقها في التفاصيل الممكنة.
– يرتهن تقدم الطفل من مرحلة إلى أخرى بالعوامل الوراثية والثقافية التي تحيط به.
– توجد فروق فردية بين أطفال العمر الواحد في النمو المعرفي.
– لا يتكيف الطفل في كل مرحلة وفقا لمتطلبات هذه المرحلة في مختلف المواقف، وهذا يعني أنه قد يتصرف إزاء موقف ما وكأنه في المرحلة الحسية الحركية، وقد يتصرف في موقف آخر وكأنه قد تجاوز هذه المرحلة. فالتكيف يختلف باختلاف المواقف.
– لا يمكن وضع حدود فاصلة دقيقة بين كل مرحلة وأخرى.
– يأخذ تطور التفكير طابعا متدرجا أي لا وجود للطفرات النوعية التي تمكن الطفل من تجاوز مرحلة أو اختصارها.
التعليم من منظور بياجيه:
يعرف بياجيه التعلم بوصفه عملية تنظيم ذاتية تؤدي إلى فهم العلاقات بين مكونات المفهوم الواحد وإدراك العلاقات التي تربط بين المفهوم بالمفاهيم التي سبق تعلمها. وتؤكد النظرية البياجية على منظومة من التصورات الدقيقة الخاصة بعملية التعلم. وتستمد هذه التصورات وجودها من النظرية العامة لبياجيه في عملية نمو الذكاء. فالبنائية التكوينية تركز على التعلم القائم على الفهم، فالمتعلم يستخدم معلوماته ومعارفه في بناء المعرفة الجديدة التي يقتنع بها وهذا التركيز ينبع من القول بأن التعلم والذكاء يتم على أساس الفاعلية الإنسانية. ومن هذا المنطلق فإن النظرية تؤكد على الجهد الذاتي للأطفال والتلاميذ في اكتساب المعرفة فالتلاميذ يجب أن يعملوا على بناء معارفهم بأنفسهم وعلى المعلم مساعدتهم على أن يجعلوا أفكارهم الخاصة واضحة وراسخة وأصيلة. وهذا النوع من التعليم يؤكد على أهمية النشاطات الذهنية لكي يتم التعلم الاستبصاري القائم على الفهم والتناسق.
وفي هذا التصور التربوي لا يكون دور المعلم في نقل المعرفة أو تلقينها، بل يكون دوره في عملية تفعيل ذهن الطفل وتنشيطه وتأكيد دوره الحيوي في استنباط المعرفة وفقا للقانونية الخاصة بالطفل. وهذا يعني أن المعلم في المنظور البنائي يوجه عملية بناء المعرفة ويساعد على تكوينها ولكنه لا يكونها ولا يمكنه ذلك لأنه المعرفة رهينة بعمليات عقلية ذاتية داخلية تعتمد المواءمة والتوازن وصولا إلى تحقيق التكيف([72]).
ويستخدم بياجيه مفهوم التعلم بوصفه العملية التي تؤدي إلى اكتساب المعلومات. ويكون التعلم شكليا لا معنى له عندما يتم تلقين المتعلم على نحو سلبي أو آلي أو تلقيني، فالتلقين لا يؤدي إلى أي تطور فكري، لأن النمو الذهني والعقلي يكون بإحداث التوازن الاستبصاري بين المعلومات السابقة والمعلومات الجديدة وهذا التوازن لا يكون أبدا إلا عبر فعاليات ذاتية نشطة كما بيّنا مرارا وتكرارا. وهذا يعني أنه لا بد من أجل حصول التعلم القائم على الفهم من مواجهة تناقض بين المخططات السابقة للمعرفة عند الطفل وبين مستجداتها، وعندما يحدث هذا التناقض بين مفاهيم الفرد تبدأ عملية التوازن والتكيف عبر عمليات عقلية تنتقل بالذهن من حالة الارتباك والفوضى إلى حالة توازن جديدة بعد استدخال الموقف الجديد واحتوائه بصورة منطقية يتكامل فيها من المنظومات السابقة للمعرفة الداخلية عند الطفل. وهذا يعني أن النمو الذهني يحدث حين يكون المتعلم نشطاً، أما التعلم التلقيني فيحدث حين يكون سلبياً عديم النشاط، وهذا يعني أن عملية النشاط في رأي بياجيه هي العنصر الحاسم في عملية التطور الفكري.
وعلى هذا الأساس يؤكد بياجيه على أهمية إحاطة الطفل بالمثيرات العقلية الغنية في البيئة التي يعيش فيها. فالنمو الذهني والتطور الفكري يحدث في دائرة العلاقة بين المثيرات الخارجية والفاعليات البنائية عند الطفل. ويؤكد بياجيه في غير مكان وفي كل مناسبة على أن طرق التدريس يجب أن تؤكد على ضرورة إعطاء المتعلم فرص الاكتشاف الذاتي والوصول إلى المعارف والمعلومات على نحو ذاتي وبفعل عمليات ذهنية داخلية متدفقة في أعماق بنيته العقلية، وهو بذلك يقف موقفا معارضا ومضادا للتعليم الذي يعتمد التلقين البسيط الساذج الذي لا يؤدي إلى بناء الذهنية أبدا ([73]).
وتؤكد النظرية البياجية على منظومة من المبادئ الأساسية التي توجه عملية التعلم واكتساب المعرفة وأهمها:
– يأخذ التعلم عملية بنائية نشطة ومستمرة. يقول بياجيه في هذا الخصوص: إن الفائدة الرئيسية لنظرية النمو العقلي في مجال التعليم هي إتاحة الفرصة أمام الطفل ليقوم بتعلم ذاتي، لأننا لا نستطيع تنمية ذكاء الطفل بالتكلم معه فقط، ولا نستطيع أن نمارس تربية الطفل بشكل جيد دون أن نضعه في موقف تعليمي، حيث يختبر نفسه ويرى ما يحصل ويستخدم الرموز، ويضع أسئلة، ويفتش عن إجاباته الخاصة، رابطا ما يجده هنا بما يجده في مكان آخر، مقارنا اكتشافاته باكتشافات الأطفال الآخرين”([74]).
– تتهيأ للمتعلم أفضل الظروف عندما يواجه بمشكلة تخل بتوازنه المعرفي وتستدعي إعادة التوازن.
– تعد المعرفة القبلية للمتعلم شرط أساسي لبناء التعلم القائم على الفهم والاستبصار.
– تهدف عملية التعلم إلى إحداث التكيف القائم على خبرة الفرد وتجاربه.
– تقاوم البنية الذهنية للفرد ومخططاته العقلية المستقرة التغيرات الممكنة وهذا يقتضي من الطفل بذل جهد كبير لتعديل المنظومة المعرفية الذهنية المستقرة نسبيا لديه.
– تقوم العمليات العقلية بتوجيه عملية الإدراك الحسي في عملية التعلم.
– لا يكون التعلم مجرد عملية تراكم آلية انطباعية لدى الفرد بل هي عملية تكوينية ذاتية تشتمل على عمليات ذهنية فاعلة.
– يتطلب التعليم القائم على الفهم والاستبصار تنظيماً ذاتياً نشطاً.
– يؤدي التعلم الاستبصاري إلى إزالة التناقضات التي يواجهها المتعلم بين خبراته السابقة والمواقف الجديدة، وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق التوازن والتكيف الذي هو غاية الذكاء ونهاية الغاية من التعلم.
– يؤكد بياجيه على أهمية التفاعل بين الأطفال في المدرسة، لأن هذا التفاعل ضروري لعملية النمو العقلي. وهذا التفاعل يمكن الطفل من الانطلاق والتحرر من أسر وجهات نظره الخاصة فالتفاعل هنا يضعه وجها لوجه مع تصورات جديدة ومفاهيم أكثر جدة وهذا بدوره يولد لديه حالة توتر معرفي ويحرض إمكانيات التفكير لديه ويجعله يعيد التوازن في منظوماته الفكرية وتصوراته الخاصة وانطباعات الأولية.
– المدرسة في نظر بياجيه يجب ألا تكون مدرسة للطاعة، وإنما يجب أن تكون مكانا حيويا للتفاعل والاستقلال والتعاون وتكوين ملكة الحكم الأخلاقي عند الطفل عبر التجربة والتفاعل. فالحس الأخلاقي لا ينمو إلا في سياق اجتماعي والمدرسة يمكنها أن تولد هذا الحس الأخلاقي بما تنطوي عليه من فعاليات اجتماعية وإنسانية.
وغني عن القول في نهاية هذه الفقرة أن تعاليم بياجيه التربوية في مجال التعليم لقيت قبولا واسعا في الشرق والغرب وبدأ المفكرون في تكون مناهج وطرق تربوية وتعليمية مستمدة من نظرية بياجيه وقد أطلق على هذا التوجه تسمية المدخل البنائي في عملية التدريس حيث تؤخذ جميع المعطيات العلمية التي قدمها بياجيه في نظريته البنائية. ويلاحظ اليوم أن هناك شبه إجماع بين صفوف الاختصاصيين في مجال المناهج وطرق التدريس على أهمية النتائج التي توصلت إليها نظرية بياجيه في مجال التربية والتعليم. ,ويتضح تأثير بياجيه المتنامي في مجال المدرسة الابتدائية حيث أصبح مألوفا بين المختصين في مجال بناء المناهج على تبني نظرية بياجيه وتمثل معطياتها في وضع مناهج استبصارية تناسب كل مرحلة عمرية وفقا لمعطيات بياجيه ومخططاته.
الجوانب التربوية في نظرية بياجيه :
يميل فريق من المفكرين إلى الكشف عن طريقة تربوية يتم فيها اختصار المسافات وحرق المراحل في عملية تعليم الأطفال وإيصالهم بصورة مبكرة إلى أعلى درجة من درجات النضج والذكاء. وقد أثارت نظرية بياجية لغطا كبيرا وصخبا في الأوساط العلمية التربوية حول إمكانية توظيف هذه النظرية في عملية حرق المراحل النمائية عند الأطفال.
وعلى أثر هذه المماحكات التربوية والفكرية حول حرق المراحل يقدم بياجيه رؤية رافضة وشديدة الرفض لأية محاولة تتجه إلى تسريع عملية النمو. ويؤكد بياجيه أن التعجيل بتحقيق النمو العقلي عند الأطفال عملية خطرة ومحفوفة بالمخاطر ولا جدوى منها على وجه الإطلاق. وفي الحالة التي نحاول فيها تسريع عملية النمو فإن النتائج تتحلى في أمرين أو احتمالين كل منهما أخطر من الآخر:
في الاحتمال الأول: يمكن للطفل أن يوائم الخبرات الجديدة ويتمثلها وفقا لخبرات سابقة وقد يكون هذا التمثل مغايرا لما يرغب فيه المربي. بمعنى أن خللا سيحدث في بنية تصورات الفرد وقد يكون هذا الخلل في تدمير منظومات معرفية سابقة أو تشويهها أو إحداث بلبلة في التكوين الذهني للفرد وقد يتمثل هذا في غياب الاتساق والانسجام بين الخبرات والمعرف التي توجد في حالة تكامل أصلا.
الاحتمال الثاني: هو أن يكتسب الطفل معرفة شكلية آلية ناجمة عن فعل تلقيني ومثل هذه المعرفة تلحق الضرر بالتكوين المعرفي وهي غير مفيدة وتبقى سطحية إلا أنها تعتقل جزءا من الطاقة والفعالية النفسية. وغالبا ما ينسى الطفل معطيات هذا التعلم وهذه هي الحالة الأفضل الممكنة.
يقول بياجيه في هذا الخصوص: ” يجب أن يتاح للأطفال أقصى قدر ممكن من النشاط الذاتي باستخدام الأجهزة والأدوات التي تمنهم من تحصيل المعارف والمعلومات. إذ يمكنهم في العمليات المنطقية الرياضية أن يفهموا ما يصلون إليه بأنفسهم. وعندما يحاول الكبار أن يسرعوا في إحداث هذا التعلم فإن الأطفال سيحرمون من لذة اكتشاف المعلومات بأنفسهم ولذلك تقل فاعلية هذا التعلم المفروض عليهم ” ([75]). وعلى هذا الأساس ينصح بياجيه المربين أن يعملوا على فهم الطفل من منطلق أن “القدرة تحدد التعلم” وأن أفكار الطفل لا تولد عن طريق التلقين الحفظ بل تكتسب تلقائيا ([76]).
ومما لا شك فيه أن نظرية بياجيه تشكل فيضا متدفقا بالمعاني التربوية والمبادئ الأساسية الهادية للعملية التربوية برمتها . إنها تشكل نظاما تربويا متكاملا يقوم على الأسس التالية كما يحددها كل من جنسبرغ وأوبر Gingsburg and Opper([77]).
– تنبه هذه النظرية إلى أهمية الفصل والتمييز بين تفكير الطفل وتفكير الراشدين وتلك هي القاعدة الأولى في أي تنظيم تربوي يريد أن يأخذ طابعه العلمي . ومن هنا يجب على النربي أن يعرف بدقة خصائص كل مرحلة من مراحل نمو الطفل وأن يدرك العمليات الذهنية الأساسية التي تفعل فعلها في كل مستوى من مستويات تطور العقل والذكاء .
– تؤكد النظرية على أهمية التفاعل الحر العميق والشامل بين الطفل والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه لأن هذا التفاعل يولد لديه افضل الوضعيات التي تحقق له نموا عقليا وتربويا متوازنا .
– تشدد النظرية على أهمية ألإجابة عن تساؤلات الأطفال لأن الاستجابة للطفل قد تشكل منطلقا لكل عملية معرفية لاحقة . فالسؤال هو مفتاح المعرفة وهو معينها ومنطلقها . ولذلك فإن البنائية التكوينية تقدم لنا فلسفة محكمة في أهمية التساؤل ودوره في تفجير العملية المعرفية.
– تنبه النظرية وتؤكد أهمية الاعتدال في توفير المثيرات المعتدلة والمتجانسة إلى حدّ كبير مع الخبرات السابقة للطفل . فالتنبيه يجب أن يلجم في حدود تخوم الخبرات والمعارف السابقة.
– ترفض النظرية كل أشكال القهر والتسلط في تربية الطفل وتؤكد مبدأ التسامح والتفهم والتبصر في وضعيات الطفل .
– التأكيد على مبدأ الحوار والمناقشة بين الأطفال وبين الأطفال ومربيهم لأن المناقشة تنمي الفكر وتزكي العقل وتنهض بعقل الطفل نحو آفاق ممكنة .
خلاصة:
من يقرأ بياجيه ويغوص في أعماق تفكيره سيشعر في البداية بقشعريرة تهز أعماقه، ويتهيب هذا العالم التكويني بما يضج فيه من عناصر العظمة والقوة. وحاله في ذلك حال الإنسان الذي يدخل إلى قلعة تاريخية عملاقة فتبهره بما فيها من آوابد تاريخية عملاقة مهيبة فتأخذه مشاعر الخشية والتهيب. ولكن ما أن يأنس قليلا ويبدأ بالمؤالفة حتى يأخذه المكان بجماله وروعته وعظمته، فيقف مسحورا بجماله مبهورا بروعته فتكتب له حالة وجدانية يتآلف فيها إحساس غامر بالسحر بالجمال مع مشاعر التهيب بالاندهاش.
في هذه القلعة العلمية التي شيدها بياجيه يشعر القارئ بحالة من الوجد الأقصى والسعادة الغامرة وكأن الإنسان يكتشف أمامه مجاهل تاريخية لم تكن لديه من قبل. يدخل القارئ فتأخذه الحيرة في جمال هذا العطاء وفي سحر المكونات البارعة لنظرية الإبيستيمولوجيا التكوينية عند بياجيه. وعندما يخرج المرء من هذه القلعة يشعر للتو بأنه قد اعتراه تغير كبير وجوهري وعميق في نظرته إلى العملية المعرفية وإلى صيرورات التكوين المعرفي. يشعر المرء بأنه أصبح أكثر غنى وأعظم قدرة على فهم القضايا التي كانت تدفعه إلى دوائر الحيرة والتحير والانكسار.
فنظرية بياجيه وأعماله تقدم للعقل تغذية فلسفية عميقة وشاملة في أكثر قضايا الوجود أهمية وخطورة وهي القضية التي تتصل بالعملية المعرفية. ففي نظرية بياجيه نجد حلولا علمية أشبه بالسحر لقضايا فلسفية وتربوية كبرى. لقد استطاع وبحق أن يضع الفلسفة في المختبر وأن يبرهن على أكثر القضايا الفلسفية صعوبة وتعقيدا في مختبرات العلم والمعرفة العلمية وهنا تكمن واحدة من عناصر عبقرية بياجيه المعرفية. ولا يمكن لأحد أن ينكر بأنه عندما يقرأ بياجيه سيشعر بأن كل فكرة من أفكاره وكل رأي من آرائه يشتد غوصا في أعماق العلم والفلسفة في آن واحد. فهناك الرصانة الفلسفية وهناك الدقة العلمية التي تعتمد البرهان القاطع والأدلة الحاسمة.
كان بياجيه عبر نظرياته العلمية ظاهرة في العصر وظاهرة العصر في آن واحد. ونظريته ما زالت تشع بعطاءاتها العلمية وتأثيره ما زال يأخذ مداه في عالم المعرفة. لم يحدث ضجيجا في عصره كما حدث لكثير من الفلاسفة والمفكرين لأنه كان يبتعد عن الصخب والضجيج العلمي. ولاحقا بدأت الدوائر العلمية تكتشف عظمة عطاءاته في غرب الدنيا وشرقها. وبدأ المفكرون يهشون وبشكل متدرج بعبقرية هذه النظرية. وكما قلنا في المقدمة فإن هذه النظرية تشكل فتحا علميا لن يقتصر على القرن العشرين لأن تأثيره سيكون أشد وأعمق وأقوى في القرن الحادي والعشرين. ولن يتوقف تأثيره إلا إذا أنتجت الإنسانية فكرا يضاهي عبقرية بياجيه في مجال علم النفس التكويني ويتجاوزه. ولن يكون هذا ممكنا لأن أي تجديد في هذا الميدان لا يمكنه أن يتجاهل عظمة العطاء في نظرية بياجيه. وأي ابتكار أو تجديد آخر في مجال علم النفس النمائي سينطلق حتما من معطيات نظريته التكوينية.
لقد تركت نظرية بياجيه التكوينية هذه أثرها العظيم في مختلف الممارسات التربوية في القرن العشرين. وبدأت المؤسسات العلمية تعتمد معطيات هذه النظرية في فهم طبيعة التعلم عند الأطفال. وأدت إلى إجراء حركات إصلاح واسعة في أنظمة التعليم والتربية في أنحاء مختلفة من العالم.
ويبقى أن نذكر بأن الاطلاع على هذه النظرية وفهمها والاستفادة منها يشكل ضرورة تاريخية لمجتمعاتنا العربية ولا سيما في قطاعات التربية والتعليم. ولا يكاد ينكر أحد من المربين والدارسين لبياجيه شعورهم بأنهم أصبحوا بعد قراءة بياجيه أكثر قدرة على فهم التربية والخوض في قضاياها بثقة أكبر. لقد منحت هذه النظرية قراءها إحساسا غامرا بأنهم يسيطرون على كثير من القضايا التربوية ذات الطابع الفلسفي ويشعرون بأنهم أكثر قدرة أيضا على توجيه نشاطهم التربوي والعلمي بشكل أفضل.
وباختصار شديد قدمت نظرية بياجيه للمعرفة الإنسانية غمرا من العطاءات في مجال علم النفس والفلسفة والتربية . فمن حيث علم النفس استطاعت هذه النظرية أن تسجل سبقا علميا في الكشف عن مراحل النمو عند الطفل بصورة علمية . وفي المستوى الفلسفي استطاعت هذه النظرية أن تقدم إجابة علمية عن جوهر نظرية المعرفة القضية الأكثر أهمية في عالم الفلسفة . واستطاعت هذه النظرية أن تسجل نفسها نظرية تربوية كلية القدرة وعبر ذلك استطاعت أن تكون منهجا تربويا أصيلا يجد حضوره اليوم في مختلف الأنظمة التربوية في شرق الدنيا وفي غربها .
مراجع المقالة ومصادرها
- جان بياجيه، الإبيستيمولوجيا التكوينية، ترجمة السيد نفادى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1991.
- سعد مرسي أحمد، كوثر حسين كوجك، تربية الطفل قبل المدرسة، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان، غ ت.
- سعيد التل، في مبادئ التربية، دار الشروق، عمان، 1994.
- شبل بدران، الاتجاهات الحديثة في تربية طفل ما قبل المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 200.
- علي وطفة، علم الاجتماع التربوي، مطبعة الاتحاد، جامعة دمشق، 1993.
- فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت 1985.
- فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق، 1982.
- محمد عبد الله البيلي، عبد القادر عبد الله قاسم، أحمد عبد المجيد الصمادي، علم النفس التربوي وتطبيقاته، مكتبة الفلاح، الكويت،1997.
- محمود زقزوق، تمهيد للفلسفة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، القاهرة، 1979.
- وديع مكسيموس داود، البنائية فى عمليتى تعليم وتعلم الرياضيات، المؤتمر العربي الثالث حول “المدخل المنظومى فى التدريس والتعلم”، القاهرة، إبريل 2003.
- DOLLE J.M. Pour comprendre Jean Piaget, Toulouse, Privat, 1974.
- PIAGET & B. INHELDER, De la logique de l’enfant à la logique de l’adolescent , P.U.F., Paris,1955.
- PIAGET , Où va l’éducation ? (1948, 1972, pour l’UNESCO), Paris, Gallimard, Col. Folio/essais, 1988.
- PIAGET «Sagesse et illusions de la philosophie , P.U.F., Paris, 1965.
- PIAGET Le Langage et la pensée chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Neuchâtel, Paris,1923.
- PIAGET, (avec A. Szeminska), La Genèse du nombre chez l’enfant , Delachaux et Niestlé., Paris, 1941.
- PIAGET, « Biologie et connaissance , Gallimard, Paris, 1967.
- PIAGET, « Introduction à l’épistémologie génétique , t. I et II, P.U.F., Paris, 1949.
- PIAGET, «Autobiographie», in C. Murchison & E. G. Boring, A History of Psychology in Autobiography , t. IV, Worcester (Mass.), 1952.
- PIAGET, «Epistémologie génétique et méthodologie dialectique», in Dialectica , 4, 1950.
- PIAGET, «L’Explication en sociologie», in études sociologiques , Paris, 1951.
- PIAGET, «La Pensée symbolique et la pensée de l’enfant», in Archives de psychologie , 18, 1923.
- PIAGET, «Les Opérations logiques et la vie sociale» (1945), in ةtudes sociologiques, Droz, Genève, 1965.
- PIAGET, «Logique génétique et sociologie», in Revue philosophique , 1928.
- PIAGET, «Nécessité et signification des recherches comparatives en psychologie génétique» (1966), in Problèmes de psychologie génétique , DenoëlGonthier,. , Paris,1972 .
- PIAGET, «Pensée égocentrique et pensée sociocentrique», in Cahiers internationaux de sociologie , 6, 1951.
- PIAGET, «Problèmes de la psycho-sociologie de l’enfance», in G. Gurvitch et al., Traité de sociologie , Paris,, 1963.
- PIAGET, Adaptation vitale et psychologie de l’intelligence. Sélection organique et phénocopie , Hermann, Paris, 1974.
- PIAGET, De la psychologie génétique à l’épistémologie», in Diogène , 1, 1952.
- PIAGET, Du rapport des sciences avec la philosophie» (1947), in Psychologie et épistémologie , Denoël-Gonthier, Paris, 1970.
- PIAGET, Etudes sur la causalité , t. XXVI à XXIX des etudes d’épistémologie génétique , P.U.F., Paris,1971-1973.
- PIAGET, J. Piaget, Traité de psychologie expérimentale , t. I: Histoire et méthode , P.U.F, Paris, 1963.
- PIAGET, L’équilibration des structures cognitives , P.U.F., Paris,1975.
- PIAGET, L’Individualité en histoire. L’individu et la formation de la raison», in L’Individualité , 3e semaine internationale de synthèse , Alcan, 1933.
- PIAGET, La Causalité physique chez l’enfant , Alcan, Paris, 1927.
- PIAGET, La causalité physique chez l’enfant, Paris, Puf,1937.
- PIAGET, La Construction du réel chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Paris,1937
- PIAGET, La Formation du symbole chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, 1946. Les Notions de mouvement et de vitesse chez l’enfant , P.U.F., Paris,1946.
- PIAGET, La Genèse des structures logiques élémentaires , Delachaux et Niestlé, Paris,1959.
- PIAGET, La Naissance de l’intelligence chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Paris,1936.
- PIAGET, La Psychologie de l’enfant , coll. Que sais-je?, P.U.F.,. , Paris, 1966, 13e éd. 1989
- PIAGET, La Psychologie de l’intelligence , Armand Colin, Paris, 1947.
- PIAGET, La Vie et la pensée» (1954), in Problèmes de psychologie génétique , Denoël-Gonthier, Paris,1972.
- PIAGET, Le Comportement , moteur de l’évolution , Gallimard, 1976.
- PIAGET, Le développement de la notion du temps chez l’enfant, Puf,Paris, 1946.
- PIAGET, Le Jugement et le raisonnement chez l’enfant , Delachaux et Niestel, Paris 1924.
- PIAGET, Le Jugement morale chez l’enfant, Puf,Paris,1939.
- PIAGET, Le Rôle de la notion d’équilibre dans l’explication en psychologie» (1959), in Six études de psychologie ,. , Paris, 1964.
- PIAGET, Le Structuralisme , coll. Que sais-je?, P.U.F.,. , Paris,1968.
- PIAGET, Les Formes élémentaires de la dialectique , Gallimard , Paris,1980.
- PIAGET, Psychologie et pédagogie, Denoël-Gonthier, Paris, 1969.
- PIAGET., Logique et connaissance scientifique, Encyclopédie de la Pléiade , Gallimard, Paris,1967.
- -J. DUCRET, Jean Piaget, savant et philosophe: les années de formation, 1907-1924 , 2 vol., Droz, Genève, 1993.
- -J. DUCRET, Jean Piaget, savant et philosophe: les années de formation, 1907-1924 , 2 vol., Droz, Genève, 1993.
- -M. DOLLE, Pour comprendre Jean Piaget , Privat, Toulouse, 1974, rééd. 1991.
- Les Relations entre l’affectivité et l’intelligence dans le développement mental de l’enfant , C.D.U., Paris, 1954
- MAURY L, Piaget et l’enfant, Paris, PUF, col. Philosophies, 1984.
الإحالات والهوامش
[1] DOLLE J.M. Pour comprendre Jean Piaget, Toulouse, Privat, 1974.
[2] علي وطفة، علم الاجتماع التربوي، مطبعة الاتحاد، جامعة دمشق، 1993، ص116.
[3] جان بياجيه، الابيستيمولوجيا التكوينية، ترجمة السيّد نفادي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1991.
[4] J.-J. DUCRET, Jean Piaget, savant et philosophe: les années de formation, 1907-1924 , 2 vol., Droz, Genève, 1993.
[5] جان بياجيه، الإبيستيمولوجيا التكوينية، ترجمة السيد نفادى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1991، ص14.
[6] محمود زقزوق، تمهيد للفلسفة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، القاهرة 1979، ص 116.
[7] – J.-M. DOLLE, Pour comprendre Jean Piaget , Privat, Toulouse, 1974, rééd. 1991.
[8] – J.-J. DUCRET, Jean Piaget, savant et philosophe: les années de formation, 1907-1924 , 2 vol., Droz, Genève, 1993.
[9] شبل بدران، الاتجاهات الحديثة في تربية طفل ما قبل المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 200، ص 183.
[10] – J. PIAGET, «Autobiographie», in C. Murchison & E. G. Boring, A History of Psychology in Autobiography , t. IV, Worcester (Mass.), 1952.
[11] – J. PIAGET Le Langage et la pensée chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Neuchâtel, Paris,1923.
[12] – J. PIAGET «La Pensée symbolique et la pensée de l’enfant», in Archives de psychologie , 18, 1923.
[13] – J. PIAGET, Le Jugement et le raisonnement chez l’enfant , Delachaux et Niestel, Paris 1924.
[14]– J. PIAGET, La Causalité physique chez l’enfant , Alcan, Paris, 1927.
[15] – J. PIAGET, «Logique génétique et sociologie», in Revue philosophique , 1928.
[16]– J. PIAGET, L’Individualité en histoire. L’individu et la formation de la raison», in L’Individualité , 3e semaine internationale de synthèse , Alcan, 1933.
[17] «La Naissance de l’intelligence chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Paris,1936.
[18]– J. PIAGET, La Construction du réel chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, Paris,1937
[19]– J. PIAGET, La causalité physique chez l’enfant, Paris, Puf,1937.
[20]– J. PIAGET, Le Jugement morale chez l’enfant, Puf,Paris,1939.
[21]– J. PIAGET, (avec A. Szeminska), La Genèse du nombre chez l’enfant , Delachaux et Niestlé., Paris, 1941.
[22] – J. PIAGET, «Les Opérations logiques et la vie sociale» (1945), in études sociologiques, Droz, Genève, 1965.
[23]– J. PIAGET, Le développement de la notion du temps chez l’enfant, Puf,Paris, 1946.
[24]– J. PIAGET, La Formation du symbole chez l’enfant , Delachaux et Niestlé, 1946. Les Notions de mouvement et de vitesse chez l’enfant , P.U.F., Paris,1946.
[25]– J. PIAGET, La Psychologie de l’intelligence , Armand Colin, Paris, 1947.
[26]– J. PIAGET, Du rapport des sciences avec la philosophie» (1947), in Psychologie et épistémologie , Denoël-Gonthier, Paris, 1970.
[27] – J. PIAGET «Sagesse et illusions de la philosophie , P.U.F., Paris, 1965.
[28]– J. PIAGET, « Introduction à l’épistémologie génétique , t. I et II, P.U.F., Paris, 1949.
[29]– J. PIAGET, «Epistémologie génétique et méthodologie dialectique», in Dialectica , 4, 1950.
[30]– J. PIAGET, «Pensée égocentrique et pensée sociocentrique», in Cahiers internationaux de sociologie , 6, 1951.
[31] – J. PIAGET, «L’Explication en sociologie», in études sociologiques , Paris, 1951.
[32]– J. PIAGET, De la psychologie génétique à l’épistémologie», in Diogène , 1, 1952.
[33] Les Relations entre l’affectivité et l’intelligence dans le développement mental de l’enfant , C.D.U., Paris, 1954
[34]– J. PIAGET, La Vie et la pensée» (1954), in Problèmes de psychologie génétique , Denoël-Gonthier, Paris,1972.
[35] J. PIAGET & B. INHELDER, De la logique de l’enfant à la logique de l’adolescent , P.U.F., Paris,1955.
[36] «Le Rôle de la notion d’équilibre dans l’explication en psychologie» (1959), in Six études de psychologie ,. , Paris, 1964.
[37] – J. PIAGET, La Genèse des structures logiques élémentaires , Delachaux et Niestlé, Paris,1959.
[38] – J. PIAGET, J. Piaget, Traité de psychologie expérimentale , t. I: Histoire et méthode , P.U.F, Paris, 1963.
[39] – J. PIAGET, «Problèmes de la psycho-sociologie de l’enfance», in G. Gurvitch et al., Traité de sociologie , Paris,, 1963.
[40]– J. PIAGET, La Psychologie de l’enfant , coll. Que sais-je?, P.U.F.,. , Paris, 1966, 13e éd. 1989
[41]– J. PIAGET, «Nécessité et signification des recherches comparatives en psychologie génétique» (1966), in Problèmes de psychologie génétique , Denoël-Gonthier,. , Paris,1972 .
[42] – J. PIAGET « Biologie et connaissance , Gallimard, Paris, 1967.
[43] – J. PIAGET., Logique et connaissance scientifique, Encyclopédie de la Pléiade , Gallimard, Paris,1967.
[44] – J. PIAGET, Le Structuralisme , coll. Que sais-je?, P.U.F.,. , Paris,1968.
[45] PIAGET J. Où va l’éducation ? (1948, 1972, pour l’UNESCO), Paris, Gallimard, Col. Folio/essais, 1988.
[46]– J. PIAGET, Psychologie et pédagogie, Denoël-Gonthier, Paris, 1969.
[47] – J. PIAGET, Etudes sur la causalité , t. XXVI à XXIX des etudes d’épistémologie génétique , P.U.F., Paris,1971-1973.
[48]-J. PIAGET, Adaptation vitale et psychologie de l’intelligence. Sélection organique et phénocopie , Hermann, Paris, 1974.
[49]– J. PIAGET, L’équilibration des structures cognitives , P.U.F., Paris,1975.
[50]– J. PIAGET, Le Comportement , moteur de l’évolution , Gallimard, 1976.
[51] – J. PIAGET, Les Formes élémentaires de la dialectique , Gallimard , Paris,1980.
[52] يشير مفهوم الأيبيستيمولوجيا (Epistemology , épistémologie) إلى المباحث النقدية في مبادئ العلوم وفي الأصول المنطقية لهذه المبادئ. فالإيبيستيولوجيا هي نظرية العلوم أو فلسفة العلوم أو دراسة مبادئ العلوم وفرضياتها دراسة نقدية. فمصطلح Épistémologie في اللغة الفرنسية مشتق من الكلمة اليونانية Episteme التي تعني “العلم” أو “المعرفة العلمية” والمقطع “Logie” الذي يعني في أصله اليوناني (Logos) أي “نظرية”، وبالتالي فإن كلمة “إبستمولوجيا” تعني حرفيًا “نظرية العلم”. ويقدم “أندريه لالاند” تعريفاً للإبيستمولوجيا يرى فيه أن هذه الكلمة تعني فلسفة العلوم، والتي تعني في أساسها دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها بغية تحديد أسسها المنطقية وقيمتها الموضوعية
[53] نظرية المعرفة: فهي ثمرة التقابل بين ذات مدركة وموضوع مدرك، بين الإنسان ذات المعرفة وبين العالم موضوعها. وتحصل المعرفة للذات العارفة بعد اتصالها بموضوع المعرفة، كما تطلق نظرية المعرفة Theory of Knowledge على البحث في إمكان المعرفة البشرية، وفي مصادر هذه المعرفة أو الطرق الموصلة إليها.
[54] سعد مرسي أحمد، كوثر حسين كوجك، تربية الطفل قبل المدرسة، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان، غ ت، ص 385.
[55] فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق، 1982، ص 182.
[56] جان بياجيه، الإبيستيمولوجيا التكوينية، مرجع سابق، ص 25.
[57] عدنان إبراهيم، رئيس جمعية لقاء الحضارات في فيينا، إمام وخطيب مجلس الشورى، محاضرة صوتية فرغت كتابيا عبر الموقع التالي:
http://www.islamiculture.org/a_vorschung_thema1_azzaman.html
[58] سعد مرسي أحمد، و كوثر حسين كوجك، تربية الطفل ما قبل المدرسية، مرجع سابق، ص 392.
[59] سعد مرسي أحمد و كوثر حسين كوجك، تربية الطفل قبل المدرسة، مرجع سابق، ص396.
[60] عالم معروف في ميدان اختبارات الذكاء عمل بالمشاركة مع الفرد بنييه Alfred Binet في بناء مقياس الذكاء المعروف في عام 1910.
[61] فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مرجع سابق، ص 184.
[62] وديع مكسيموس داود، البنائية فى عمليتى تعليم وتعلم الرياضيات، المؤتمر العربى الثالث حول “المدخل المنظومى فى التدريس والتعلم”، القاهرة، إبريل 2003.
[63] جان بياجيه، الإبيستيمولوجيا التكوينية، مرجع سابق، ص 29.
[64] شبل بدران، الاتجاهات الحديثة في تربية طفل ما قبل المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 200، ص 189.
[65] جان بياجيه، الابيستيمولوجيا التكوينية، ترجمة السيّد نفادي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1991، ص 27.
[66] سعيد التل، في مبادئ التربية، دار الشروق، عمان، 1994، ص 175.
[67] محمد عبد الله البيلي، عبد القادر عبد الله قاسم، أحمد عبد المجيد الصمادي، علم النفس التربوي وتطبيقاته، مكتبة الفلاح، 1997، ص54.
[68] سعيد التل، في مبادئ التربية، دار الشروق، عمان، 1994، ص 175.
[69] MAURY L. Piaget et l’enfant, Paris, PUF, col. Philosophies, 1984.
[70] فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت 1985.
[71] فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، المرجع السابق.
[72] وديع مكسيموس داود، البنائية فى عمليتى تعليم وتعلم الرياضيات، المؤتمر العربى الثالث حول “المدخل المنظومى فى التدريس والتعلم”، القاهرة، إبريل 2003.
[73] انظر: فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت 1985.
[74] نقلا عن: شبل بدران، الاتجاهات الحديثة في تربية طفل ما قبل المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 200، ص 193.
[75] نقلا عن: سعد مرسي أحمد، كوثر حسين كوجك، تربية الطفل قبل المدرسة، مرجع سابق، ص 407.
[76] سعد مرسي أحمد، كوثر حسين كوجك، تربية الطفل قبل المدرسة، مرجع سابق، ص 407.
[77] شبل بدران ، الاتجاهات الحديثة في تربية الطفل ، مرجع سابق ، ص 194.