وزارة الصحّة والوسواس القهري و”فيروس كورونا ”   

التريوي يوسف: طالب باحث في علم النفس
إن سلوك غسل اليدين كفعل قهري يكون مرفق بأفكار وسواسية متعلقة بالنظافة والخوف من الإصابة بالفيروس وتكون عملية غسل اليدين المتكررة وسيلة للخروج من دائرة القلق ولكن الإفراط في هدا السلوك و تطهير الأشياء والأدوات المنزلية باستمرار علامة تدل على الوسواس القهري.
 علينا أنْ نتساءلَ إلى أينَ يأخذنا كلّ هذا بعد أنْ أصبحت لدينا الآن نظرية لكلّ شيءٍ: عدد الأفراد المسموح تواجدهم معاً وحساب الأمتار بين الشخص والآخر 
إرشاداتٌ وزارة الصحة بغسل اليدين 10 ثوانٍ في بداية الأزمة ارتفعت إلى 20 ثانية، ثمّ أصبحت الأن  40 ثانية ، فيديوهات وصور تشرح وتصوّر الطريقة الصحيحة لغسلهما، تعليماتٌ بنظافة البيت وغسل الثياب على درجات حرارة معيّنة،  وافتراضاتٌ عن مدّة بقاء الفيروس على الأسطح المختلفة ؟  كيف تخرج للتسوّق؟ كم نسبة الكحول المطلوبة في المعقّمات؟ كيف تنظّف الخضروات والفواكه؟ كيف تخلع قفّازاتك؟ كيف تحافظ على وزنك أثناء الانعزال…..؟ 
نغسل أيدينا فنشكّ في نظافتها لنعود لغسلها ثانيةً،  نتنبّه إلى أنّنا أمسكنا الهاتف فنعقّمه ونعود لغسل أيدينا مرةً أخرى ،  أو ببساطة قد نغسل أيدينا فننسى أنّنا غسلناها فنعود لغسلها ثانيةً، نخاف التلامس البشريّ والاتّصال الاجتماعي ونشعر بالذنب في حال قيامنا بذلك نراقب بعضنا ونتعقّب الآخرين وتصرّفاتهم 
ألا يُحاكي هذا كلّه، ولو بشكلٍ من الأشكال، أعراض العُصاب القهريّ؟ هل سيصبح ما كان بإمكاننا وصفه عرَضاً عُصابيّاً هو العاديّ والمطلوب في الفترة القادمة، فيؤسّس لعُصابٍ أكبرَ من الذي كنّا نعيشه في واقعنا هذا؟
تحدّث فرويد عن أنّ العُصاب هو السمة الأساسيّة للمجتمعات الحديثة ، وأكّد جاك لاكان Jacques Lacan على أنّه ليس مجموعة من الأعراض فقط، بل بنية تؤسّس لها، وبالتالي من الممكن لأيّ شخصٍ أنْ يكونَ عُصابياً دون أنْ يُظهر أياً من الأعراض النمطيّة. في الواقع، يُشير فرويد إلى أنّ الحدود الفاصلة بين العُصاب والحياة الطبيعيّة يُمكن بالكاد تمييزها،  فما قد يظهر من سلوكيّات ومشاعر في بيئةٍ ما أو ظرفٍ معيّن ويمكن تشخيصها على أنّها مرَضية أو سريرية، يمكن أنْ تكونَ “عاديّة” في بيئةٍ وظروفٍ أخرى، بل ويُمكن تشجيعها والمطالبة بالتكيّف معها.
لكنّ هذا لا يعني بأنّ “التكيّف” صحيّ في كلّ الحالات على العكس، فهو نفسه الذي قد يخلق العُصاب، ومحاولاته هي التي قد تجلب الأعراض، رأى فرويد أنّ العُصاب يعمل عن طريق تجنّب جزءٍ من الواقع، دون إنكاره ولكن بمحاولة الهرب منه عن طريق كبت الأفعال والرغبات والأفكار.
ثمّ كتب في “الحضارة وسخَطها” بأنّ الكبت، وبالتالي العُصاب، هما ثمن العيش في المجتمع الحديث المجتمع بالنسبة إلى فرويد لنْ يكون ممكناً إذا اتّبع الأفراد رغباتِهم دون القلق بكيفية وطريقة تأثيرها على الآخرين، فيضطرّون في كثيرٍ من الأحيان لمنعها وكبتها نظراً لأنّها تمثّل تهديداً لذواتهم وللآخرين وتشعرهم بالذنب، وربّما العار والخزي من انتهاك الحدود والقواعد، لكنّها تظهر لاحقاً في صورة أعراض عُصابية تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الهستيريا والعُصاب القهريّ والرّهاب (يُطلق عليه فرويد مصطلح هستيريا القلق).
وفي حين لا يُشير الدليل الإحصائي والتشخيصي للاضطرابات النفسية DSM-V إلى “العُصاب” بل إلى الوسواس القهريّ والاضطرابات ذات الصلة، والتي تشمل السلوكيّات القهرية أو المتكرّرة مثل غسل اليدين أو قضم الأظافر أو شدّ الشعر أو العدّ وغيرها، اعتقد لاكان أنّ “الوسواس” متأصّل في حياة الشخص وبذلك يتعامل التحليل النفسيّ مع هذه الحالة ليس على أساس الأعراض السطحية والظاهرة ولكن على أساس الآليات والبُنى النفسية التي تُنتج تلك الأعراض.
كيف نفهم هذا وسط الجائحة؟ يشرح جاك  لاكان، مستخدماً مصطلحات هايدغر، أنّ العُصاب القهريّ هو في جوهره سؤالٌ يضعه الوجودُ أمام الذات ويُفقدها ثِقتَها بنفسها بارتباطه بدافع الموت. “هل أكون أو لا أكون؟”، “هل أعيش أم أموت؟”، “هل أنا حيٌّ أم ميّت؟”، فيأتي الجواب من خلال أفكار وأفعال وسلوكيات يقوم بها الفرد ويكرّرها ليبرّر بها وجوده وتُشعره بامتلاك السيطرة عليه، وقد تمكّنه من الهرب من موتٍ وشيكٍ أو كارثةٍ رهيبةٍ قد يُسبّبها لنفسه أو لأيٍّ من أحبّائه أو أقربائه.
يفتقد العصابيّ-القهريّ ثقته بنفسه، ويشعر بانعدام سيطرته على عالميه الداخليّ والخارجيّ وتحكّمه بهما، فيُصبح مهووساً بتفاصيل مُفرطة وأفعال وسلوكيّاتٍ مكرّرة تُثبتُ له عكس ذلك، يمكن رؤية مظاهر ذلك في الأعراض العاطفية، كالشكّ والشعور بالذنب والعتاب الذاتيّ، أو في ردود الفعل التي تتبع ذلك، مثل الانسحاب الاجتماعي والعزلة وتجنّب التجمّعات واللقاءات وما إلى ذلك. أو بتأثيره على عامل الزمن بارتباطه بالتردّد والشكّ حيال كلّ ما يقوم به الشخص، فيُفضل التأجيل والمماطلة خوفاً من أيّةِ “كارثة” قد تقع. 
ليست المشكلة في الدعوات الصحّية للالتزام بقواعد السلامة الصحيحة الآن، بل تكمن المشكلة في أنّ السلوكيّات القهرية -السمة الأكثر وضوحاً للاضطراب- ليست سوى استجابةً للعديد من الأفكار اللاواعية التي نعجز عن التعامل معها بشكلٍ سليم وتتأثّر بدورها بالثقافة والمجتمع والمخاوف الصحّية المشتركة.
 فالطبّ النفسي على سبيل المثال يشير  إلى ارتفاعٍ في حالات الوسواس القهري في عشرينيات القرن الماضي مع الإنفلونزا الإسبانية، أو بعدما بدأت الجهات الصحية تسليط الضوء على مخاطر مرض الزُهري. وفي الثمانينيات، بعدما أخذ فيروس نقص المناعة المكتسبة مساحةً واسعة في الإعلام والسياسة، وفي السنوات الأخيرة مع ازدياد المخاوف المتعلّقة بتغيّر المناخ والتلوّث البيئي، لذلك لا عجب أنْ تزداد المخاوف ويتنامى القلق حيالها مع هذا الفيروس.
 ومن أجل تجنب الإصابة بالوسواس والأفعال القهرية يمكن  التأكيد على التقليل من مشاهدة الأخبار  في كل وقت وإستغلال وقت الحجر الصحي في أشياء ترفع من النفسية والروح المعنوية والبعد عن مصادر القلق وتجاهل كل ما يبث الطاقة السلبية ، عدم ترك الأفكار والهواجس تسيطر على  كينونة الإنسان  ، ممارسة الحياة بشكلها الطبيعي داخل المنزل  ، كما يجب علينا تحديد الأفكار الوسواسية والتغلب عليها لأنها تؤثر على الصحة النفس_جسدية للإنسان وتتحكم في أفعاله 
وتوجهاته  المستقبلية .  

بعض المراجع 

  1. علوي إسماعيل  محاضرات في سيكولوجية  الدهانات والعصابات ، 2019،طلبة الفصل الرابع ،تخصص علم النفس ، فاس 
  2. أرون بيك ، العلاج المعرفي الإضطرابات القلق ،العلوم والممارسة ،2010,نيويورك ، مطبعة جويلفورد.
  3. علوي إسماعيل محاضرات في علم النفس المرضي،2015,طلبة الفصل التاني ، تخصص علم النفس،فاس
  4. فرح عبد القادر طه،علم النفس وقضايا العصر ، الطبعة السابعة 1999، كلية الأداب، مصر 

إغلاق