مشروعية الدولة وغايتها بين باروخ اسبينوزا وفريدريك هيجل وكارل ماركس
درس محور مشروعية الدولة وغايتها
المجزوءة : مجزوءة السياسة
المفهوم : مفهوم الدولة
المحور: مشروعية الدولة وغاياتها
محاور درس مشروعية الدولة وغاياتها
- تقديم بخصوص مفهوم السياسة
- تقديم بخصوص مفهوم الدولة
- تحليل نص باروخ اسبينوزا “غاية الدلوة هي الحرية”
- مناقشة موقف اسبينوزا بموقفي فريدريك هيغل وكارل ماركس
تقديم بخصوص مجزوءة السياسة
إن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، ينزع بطبيعته إلى الإجتماع مع الآخرين من بني جنسه، وبالتالي كان لابد له من ربط علاقات مع الآخر، إلا أن هذه العلاقات تتعدد وتتنوع، فنجد علاقة الصداقة، علاقة الإحترام، علاقة الحب، علاقة التضامن، لكن قد تتحول العلاقة مع الآخر من تلك العلاقة الإيجابية السامية إلى علاقات سلبية كعلاقة الصراع والعنف، نتيجة لمجموعة من العوامل أبرزها تقاطع مصالح الأفراد، وارتباط الإنسان بما هو طبيعي كحب التملك والسيطرة. ولهذا كان لزاما على الإنسان أن يبتكر آليات لتظيم التعايش ولتحقيق السلم والأمن بين الأفراد والجماعات، ولتسيير حياة الأفراد داخل المجتمع وضمان اشتغاله على نحو منظم تسوده المساواة والحرية والديموقراطية، ويتجلى هذا التنظيم في عدد المؤسسات الإدارية والقانونية والسياسية التي تتطابق مع متطلبات المجتمع. كل هذا يفتحنا على الإنسان ككائن سياسي، الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل: ما السياسة؟
في دلالتها اللغوية تشتق لفظة سياسة من فعل ساس، نقول سُوِّسَ فُلانٌ أمر بني فلان، أي: كُلف سياستهم، وفي دلالتها الفلسفية وكما عرفها أرسطو فهي “فن تدبير الشأن العام”. إذن فالسياسة هي تلك الطريقة التي يتم بها تنظيم العلاقات بين الأفراد، وفق آليات ملموسة ووفق قواعد معيارية، بشكل يمكن من تمتيعهم بحقوقهم، والمحافظة على استمرار المجتمع.
لهذا لا يمكن الحديث عن السياسة دون الحديث الأجهزة السياسية التي يتم بها تدبير الشأن العام، ولعل أبرز جهاز سياسي على مر التاريخ الإنساني، ومنذ بداية الحضارة الإنسانية هو الدولة، هذه الأخيرة تعتبر كوسيلة لتدبير الشأن العام عبر مجموعة من الآليات والمؤسسات الأخرى. ولا يمكن الحديث عن الدولة إلا بالوقوف عند العنف، كآلية رافقت العملية السياسية، ليس من أجل التأكيد عليه بل من أجل مساءلته. زيادة على ذلك، يفتحنا مفهوم السياسية على مفهومين آخرين مرتبطين بالممارسة السياسية، ولنقل تتأسس عليهما الممارسة السياسية وهما مفهوما الحق والعدالة، وهنا يتم التساؤل عن العلاقة الرابطة بينهما، وعن تأسيسهما للبعد المعياري القيمي الأخلاقي للممارسة السياسية.
كل ذلك يفتحنا على مجموعة من التساؤلات من بينها: كيف يتم تدبير الشأن العام؟ هل تتم الممارسة السياسية عبر مبدأ الحق والقانون والعدالة أم عبر مبدأ العنف والقوة؟ وهل يمكن القول بالتعارض بإمكانية تكامل المبدأين، أم أن العلاقة بينهما لا يمكن أن تكون إلا علاقة تعارض وقطيعة؟
تقديم بخصوص مفهوم الدولة
إن القول بكون السياسة “هي فن تدبير الشأن العام”، وهو قول لأرسطو، يجعلنا نبحث في الآلية التي من خلالها يتم تدبير ذلك الشأن، وهنا لا يمكن إلا أن نؤكد على كون الدولة أبرز جهاز يمكن من تدبير الشأن العام لأفراد المجتمع، فما الدولة إذن؟ تشير الدولة في مدلولها إلى معنيين معنى عام ومعنى خاص، الدولة في معناها العام، وكما عرفها الحقوقيون وعلماء الإجتماع: “جماعة كبيرة من الناس، تسكن أرضا معينة بصفة دائمة، ويجمعها نظام سياسي، وتتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال”، أما في دلالتها الخاصة: “فهي عبارة عن الأجهزة والمؤسسات التي تمارس السلطة والحكم في بلد ما”. فالدولة بهذا المعنى تستعمل في مقابل الشعب، وهي تعني الحاكمين، في حان تدل كلمة الشعب على المحكومين، وبهذا يمكن القول بأن الشعب هو مجموع السكان الذين تسري عليهم سلطة الدولة. بعد هذا التحديد الدلالي لمفهوم الدولة كجهاز لتدبير الشأن العام. يمكن تبيين ما ارتبط بالمفهوم من إشكالات. طرح مفهوم الدولة إشكال الغاية منها ومشروعية قيامها، وهو إشكال ينطلق وجود مجتمعات بدون دول، وهنا يتم التساؤل عن الأساس الذي تستمد منه الدولة مشروعيتها ومشروعية ممارستها للسلطة على الأفراد. إشكال ثاني يرتبط بالإشكال الأول وهو المتعلق بطبيعة السلطة السياسية الممارسة من طرف الدولة، فالحديث عن الدولة هو حديث تدبير الشأن الإجتماعي والسياسي وفق آليات تحمل في طياتها طابع السلطة. إشكال ثالث محوره مشروعية العنف الممارس من طرف الدولة، وإن كان بإمكان الدولة اعتماد العنف المشروع كآلية لتدبير الشأن العام ، أم أنه لابد لها من تأسيس سلطتها على الحق والقانون. بعد تحديد الإمتدادات الإشكالية لمفهوم الدولة، يمكن صياغتها صياغة استفهامية استشكالية كالآتي:
- من أين تستمد الدولة مشروعية وجودها؟ وما غاياتها؟
- ما طبيعة السلطة الممارسة من طرف الدولة؟
- هل تتأسس سلطة الدولة على الحق أم على العنف؟
أولا: مشروعة الدولة وغاياتها
التأطير الإشكال: إن الإقرار بوجود مجتمعات بدون ندول، يجعل من وجود الدولة أمرا غير وبديهي وغير مسلم به، ما يدفعنا إلى التساؤل عن أساس مشروعية الدولة أي عن نبرر وجودها، كما يدفعنا إلى التساؤل عن غاياتها غاياتها. فمن أين تستمد الدولة مشروعيتها وما غايتها؟ هل تستمد الدولة مشروعية و مبرر وجودها من العقد الإجتماعي الذي يمر به الأفراد من حالة الطبيعة إلى حالة الدولة، فتكون غاية الدولة هي الحرية والأمن؟ أم أن الدولة تستمد مبرر وجودها من الروح المطلق، فتكون غايتها في ذاتها؟ أم أن الدولة تجد مشروعيتها في انقسام المجتمع إلى طبقات وبالتالي غايتها خدمة طبقة دون الأخرى؟
تحليل نص باروخ اسبينوزا
تعريف الفيلسوف: باروخ اسبينوزا ( 1632-1677م) فيلسوف هولندي، واحد من فلاسفة التعاقد الإجتماعي، من مؤلفاته “رسالة في اللاهوت والسياسة“.
تأطير الموقف: يتأطر موقف اسبينوزا ضمن الكتابات الفلسفية التعاقدية، التي ترى بأن الأفراد انتقلوا من حالة الطبيعية، وهي حالة افتراضية، كان الأفراد فيها يحتكمون إلى طبيعتهم، إلى حالة الدولة والمجتمع. ويرى اسبينوزا بأن الطبيعة الإنسانية طبيعة خاضعة للشهوة، ولا يحدها إلى غياب القدرة، لذلك كان من الضروري أن ينتقل الأفراد إلى حالة المجتمع وحالة الدولة، عبر عقد اجتماعي، وفي هذه الحالة يخضع الأفراد للعقل وللسلطة المشتركة، لغاية الحرية الحفاظ على البقاء.
أطروحة النص: الغاية من وجود الدولة هو تحقيق الحرية، وتمكين كل مواطن من الحفاظ على حقه الطبيعي في الوجود باعتباره وجودا حرا.
تحليل الأطروحة:
لتوضيح موقفه من مشروعية الدولة وغايتها، تقدم اسبينوزا في نصه بمجموعة من الحجاج، استهلها بالحديث عن الغاية من وجود الدولة، التي ليست هي ترهيب الناس وتحويلهم إلى كائنات حيوانية وآلات صماء، بل هي ضمان حريتهم وأمنهم. ويؤكد اسبينوزا ويشدد على ذلك، حيث يقول :” وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة…” وهذا يتبين لنا أن اسبينوزا يريد أن يؤكد جدية ما يقول.
في نفس السياق، سياق دفاع اسبينوزا عن موقفه، يلتجئ إلى حجة أخرى، وهي حجة المقارنة والتشبيه، حيث قارن بين الإنسان والحيون والآلة، وشبه الإنسان الفاقد للحرية بالحيوان الذي يتحرك وفق منطق الشهوة، وايضا بالآلة الصماء الفاقدة لمعنى الوجود الإنساني، الذي هو وجود حر.
وزيادة في توضيح موقفه، تقدم اسبينوزا بالشرط الذي يجب أن تقوم عليه الدولة، وهو أن تنبع سلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد، ومضمون هذا القول هو أن سلطة الدولة تتمتع بوجود مستقل عن إرادات الأفراد والجماعة. إضافة إلى ذلك يؤكد اسبينوزا على أن الحق الوحيد الذي تنازل عليه الأفراد هو الحق في أن يتصرف كل وفق ما يمليه عليه قراره الشخصي. وليس حقه في الحكم والتفكير. ومن ثمة فللفرد الحرية في الكلام وفي التفكير وفي إصدار الحكم اعتمادا على العقل، لا على المكر والخداع. فليس للفرد الحرية في تغير أي شيء في الدولة بمحض إرادته، ووفقا لقراره الشخصي فقط. ومن ثمة فالحرية التي يدعوا إليها اسبينوزا هي حرية مقيدة بقيود العقل والقانون والسلطة المشتركة، وليست بحرية مطلقة، فالحرية المطلقة لم تكن ممكنة إلا في حالة الطبيعة، أما حالة الدولة فهي حالة القانون والسلطة المشتركة.
و يقدم اسبينوزا مثالا مفترضا لتبيين كيف أن الأفراد يجب أن يمارسوا حرياتهم لكن مع احترامهم الضروري لسلطة الدولة، مثال شخص تبين له تعارض قانون ما مع العقل، وعرضه على السلطات العليا لتحكم عليه، دون معارضة للقانون، فهو يستحق اسم المواطن الصالح.
قيمة الموقف
يكتسي موقف اسبينوزا أهميته من تأكيده على أهمية الحرية في التفكير والحكم، وتأكيده على ضرورة السلوك وفق العقل لا وفق الطبيعة والشهوات وهو ما يؤسس لمجتمع ضامن للحقوق الطبيعية والمدنية. لكن القول بكون الحرية والسلم هي غاية الدولة يجعلها مجرد وسيلة، بل أكثر من ذلك فغاية الدولة يمكن أن تتعدى الحرية والأمن إلى خدمة مصالح طبقة دون الأخرى.
مناقشة موقف اسبينوزا بموقفي كل من هيجل وماركس
1 – موقف فريدريك هيجل
فريدريك هيجل (1770-1831م) فيلسوف ألماني مؤسس فلسفة الجدل، من مؤلفاته مبادئ فلسفة الحق، علم المنطق.
يذهب هيجل إلى انتقاد النظرية التعاقدية، التي خلطت بين الدولة والمجتمع المدني، فالذي يقوم بحماية حرية الأفراد وحماية الملكية حسب هيجل هو المجتمع المدني وليست الدولة هي من تقوم بذلك، لأن ذلك سيجعل من الدولة مجردة وسيلة في يد الأفراد. إلا أن الدولة حسب هيجل هي غاية في ذاته، وهي ضرورة تاريخية لا دخل لإرادات الأفراد فيها. بل أكثر من ذلك فالأفراد ليس لهام من الموضوعية والحقيقة ولا من الأخلاق إلا بما هو أعضاء في الدولة. فالحياة الجماعية تعتبر قدر الأفراد، ومصيرهم المحتوم.
إذن فالدولة تستمد مشروعيتها من العقل، وأنا غايتها فب ذاتها
2 – موقف كارل ماركس
فيلسوف ألماني، من مؤلفاته: “الرأسمال”، “البيان الشيوعي“.
تعرضت نظرية التعاقد الإجتماعي للإنتقاد من طرف الفلسفة الماركسية أيضا، فهذه الأخيرة لم تر في الدولة مجالا لتحقيق إنسانية الإنسان وأمنه ورفاهيته، فنشأة الدولة مرتبطة بالملكية الفردية، وانقسام المجتمع إلى طبقات، وفي ذلك يقول صديق ماركس فريدريك إنجلز: “لم تكن الدولة موجودة منذ الأبد، بل إن هناك مجتمعات لم تكن لديها أية فكرة عن الدولة وعن سلطتها، لكن في مرحلة من التطور الإقتصادي الذي كان مرتبطا، ضرورة، بانقسام المجتمعات إلى طبقات، أصبحت الدولة ضرورية، وعندما يعيد المجتمع تنظيم إنتاجه الإقتصادي على أساس التشارك الحر والمتساوي بين المنتجين فإن آلة الدولة ستؤول إلى الموقع الذي سيصبح منذ الآن هو موضعها أي متحف الأثريات بجانب العجلة والفأس البرونزي“.
إذن فالدولة حسب التصور الماركسي، تجد مشروعيتها في انقسام المجتمع إلى طبقات، طبقة برجوازية مالكة لوسائل الإنتاج، وطبقة بروليتارية ، لا تملك إلا جهدها العضلي. ولا غاية لها غير خدمة مصالح الطبقة البرجوازية، وتبرير هيمنتها.
خلاصة تركيبية للمحور
بعد مساءلة مفهوم الدولة، والبحث عن مشروعية الدولة وغاياتها، نخلص إلى أن أسس الشرعية تختلف، كما تخلف غاياتها، وعلى العموم يمكن القول بأن الدولة يمكن أن تجد مشروعيتها في العقد الإجتماعي الذي بموجبه مر الأفراد من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية والمجتمع والدولة، كما يمكن أن تجد مشروعيتها في ذاتها، إلا أنها يمكن أن تجدها في انقسام المجتمع وفي صراع الطبقات. إضافة إلى ذلك يمكن القول بأن غاية الدولة ترتبط بمصدر مشروعيتها، وبما أن أسس المشروعية تختلف، فحتما تتغير الغايات، لذلك نجد أن الدولة قد تأخذ الحرية والأمن كغاية لها، ويمكن أن تكون غاية في ذاتها، كما يمكن أن تكون غايتها هي خدمة مصالحة طبقة دون الأخرى.