كورونا بين الحرية وإعادة الاعتبار للذات – عبد الحميد احسيني

كثيرا ما تساءلنا، من نحن؟ هذا السؤال حقاً،  لم ندخر له جهداَ كي نجيب عنه جواباً شافيا كافيا. هذا الوقت البطيء الذي نمضيه الاَن، إنه موسوم بطابع الضرورة والإلزام والالتزام وفقدان الحرية – التي كنا نتمتع بها خارجا – ولو أننا في بيوتنا، ما نحياه الآن؛ ليس سوى تجربة لإعادة الاعتبار لذواتنا؛ التي كانت مجرد وسيلة في يد الوجود والعالم المادي من حولنا، قال العلامة ابن خلدون في كتابه الشهير المقدمة: ” إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونِحْلَتِه وسائر أحوالِهِ وعوائِدَهُ؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها…فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتَشَبَّهَت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه – والله أعلم – من أن غَلَبَ الغَالِبِ لها ليس بعصبيةٍ ولا قوة بَأْسٍ، إنما هو بما انْتَحَلَتْهُ من العَوَائِد والمذاهِب”. إن الغالب اليوم ليس شخصاً، ولا دولةَ، ولا شعباً، ولا ورئيساَ، إنه شيطان صامت لا يرى، لا مذهب له ولا زي، شعاره الموت، لا يدعو أحداً للاقتداء أو التشبه به، لأنه لا يحابي أحداً، الغني والفقير والسوي والمريض، الرئيس والمرؤوس، كلهم يركبون سفينة واحدة، من نجى منه فقد نجى، ومن غرق فقد غرق. ذواتنا التي تماهت مع الشوارع والسيارات والبنوك والمدارس والساحات، والمهرجانات، والهرج والمرج، تسابق الزمن للتتبع مسار اخر ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة، لم تفكر يوماً بشكل عميق في كينونتها، من هي؟ ما الحرية؟ وما معنى سعادة البيوت؟ هل هذا العالم المادي يستحق منها كل هذا التماهي والانسلاخ في الوجود لحد الاستلاب؟.
   تقول الفيلسوف البلغارية الفرنسية “جوليا كريستيفا” في كتابها Etrangers à nous-mêmes  : ” ‏ليس الغريب، الَّذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر… هو ذلك الدَّخيل المسؤول عن شرور المدينة كلّها… ولا ذلك العدوّ الَّذي يتعيَّن القضاء عليه لإعادة السّلم إلى الجماعة. إنَّ الغريب يسكننا على نحو غريب. إنَّه القوَّة الخفيَّة لهويتنا، والفضاء الَّذي ينسف بيتنا، والزَّمان الَّذي يتبدأ فيه وفاقنا وتعاطفنا . ونحن إذ نتعرَّف على الغريب فينا نوفّر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إنَّ الغريب، بوصفه عرضا دالاَ يجعل “النَّحن” إشكاليًّا وربَّما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لدي الوعيّ باختلافي، وينتهي عندما نتعرَّف على أنفسنا جميعا على أنَّنا غرباء متمردون على الرَّوابط والجماعات ..”
يبدو إذن أن الغريب الذي نواجهه اليوم، له اسم مستعار كورونا أو Covid 19،  إنه فيروس لا يحمل حقدا على أحد، لأنه لا يلامس الإحساس، لو كان كذلك لقضى على فئة دون أخرى، بل هو ذلك الدخيل المسؤول عن هلع وفزع العالم بأسره وليست المدينة فقط، لأن المدينة جزء أصغر من العالم الأكبر، هوى بالاقتصاد العالمي، والأسهم والبورصات إلى الحضيض. إن عدونا إذن؛ ليس شخصاً خارجاً عن قانون العدالة، أو قاتلاً يسفك دماء الأبرياء كي نقضي عليه، أو نزج به في غياهب السجون، إنه عدو تسلل إلى هوياتنا أو بالأحرى إلى هويات العالم، فلم تسلم منه جل القارات، نسف وينسف البيوت، عند فقداننا لحبيب أو قريب بسببه، حتى أضحى هذا الغريب يسكن البيوت والقصور و الشوارع والمداشر، وأصبح العالم بأسره ينطق بلغته، فلا لغة تعلو اليوم فوق لغة الأرقام والإحصائيات في عدد الوفيات والمرضى والمعافون منه. لقد جعل منا غرباء حقا، فكل واحد منا لو أراد أن يتحرر من قيوده، سيصبح غريباً في أعين الاًخرين، بحيث سيهدد حياته وحياة الاخرين للخطر والموت، فيشبه بذلك ذلك الغريب، ولهذا نحن ملزمون باتباع سلطان العقل، وما تقتضيه حريات الاَخرين حولنا، وأفضل طريق لطرده والتخلص منه، ما دام يشكل لنا تهديداَ جماعيا لا نراه – بلغة جون بول سارتر- القائل: “الجحيم هم الاخرون”. إن هذا الاَخر كما قلنا سالفاً، غير محدد أبداً، ولا ندركه لا جسماً، ولا وجهة ولا لوناً ولا رائحةً، فقط، إرادة الحياة تدفع بنا إلى الانتقال إلى حقل “ممكنات” أرحب و أوسع، تلك “الممكنات” التي سنشعر بأننا أحرار؛ ولو بنسبة ضئيلة، لأن جحيم الاَخر مستمر على الدوام.
عبد الحميد احسيني أستاذ مادة الفلسفة بجهة مراكش اسفي، مديرية قلعة السراغنة – المغرب-، مدرس بمؤسستي اولاد اصبيح و أولاد الشرقي التأهيليتين العموميتين. ومؤسسة نخيل البشري الخصوصية.. .

 

إغلاق