دور المثقف المستقل في تعزيز الثقافة الديمقراطية – د زهير الخويلدي

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

“الوطن هو دين المواطن”

ليس من السهل على الإنسان أن يكون مثقفا مستقلا بالمعنى الحقيقي للكلمة في زمن التجاذبات وهيمنة النسق التأديبي والانضباطي على الأفراد وبالنظر إلى المسلمات الضمنية والفرضيات المسبقة التي تتحكم في رؤية الثقافة السائدة للكون والتي تسيطر على البنية العقلية للكائن البشري وتدفعه إلى الابتعاد والاستكانة والانطواء على الذات. كما أنه ليس من السهل أن ينخرط المثقف المستقل في العمل السياسي وذلك للمخاطر التي تحيط بهذه الحركة النبيلة والخوف من الحرية والانخلاع من السياسي dépolitisation وللعواقب الوخيمة التي تنجر عن ذلك في ظل تعدد العراقيل والمعيقات التي تعطل أداء الناشط السياسي. عندئذ تتطلب المغامرة المستقلة شجاعة كبيرة وتغريد خارج السرب ونوع من التحدي التضحوي والمبادرة الحرة ويشترط أيضا توفر الفرصة والتفهم والاستعداد.
من هذا المنطلق إن وجود بعض المستقلين في التجربة السياسية لقوى المجتمع المدني هو أمر لا يعكس البتة حالة الاستقالة عند النخبة وعزوف البعض عن التدخل في الشأن العام وبالتالي لا يبعث عن الحيرة والاستغراب ولا يدل كذلك على تنامي عدد المستقلين في الحياة السياسية وإنما هو علامة صحية فارقة ومؤشر على تطور القوى المعارضة ومسألة هامة قصد تنشيط الحراك الديمقراطي وأمر ضروري وحيوي لتعزيز النبض الحقوقي، بل انه أصبح من المطلوب اليوم على مؤسسات المجتمع المدني أن تدرس هذه الظاهرة بشكل علمي وأن تحسن التعاطي معها وتستفيد من تحمس المثقف الملتزم و خبرته ومن مساحة الاستقلالية التي يتمتع بها وذلك لدفعه إلى القيام بعدة أدوار تثقيفية وإتاحة الفرصة أمامه لترسيخ مجموعة من القيم التنويرية.
لكن من هو المثقف المستقل؟ بماذا يتميز عن غيره من الناس؟ ومن أين يأتي؟ وماهي المجالات التي كان يتحرك ضمنها؟ وماهو الدور الذي يضطلع به؟ وهل يحتاج الفضاء العمومي لثقافته ولاستقلاليته؟ والى أي مدى تمثل مساهمته إضافة نوعية للحراك الديمقراطي؟ وهل يمتلك وصفة سحرية للتقدم؟
إن غاية المراد هو مغادرة الآراء التي تنعي الاستقلالية وتدعي نهاية دور المثقف والاعتراض على التنظم القطيعي ضمن أسراب من الحشود وإيقاظ الحاجة إلى الفرد الحر والإيمان بفاعلية التنوير العلمي والثقافي المتدرج وزرع مبدأ الأمل وفتح الأفاق بالنسبة إلى الأجيال الصاعدة.

1- من هو المثقف المستقل؟

“كل إنسان بمفرده يستطيع أن يشارك الذين يريدون التغير نفسه واذا كان هذا اغير معقولا فإن كل انسان يستطيع أن يكثر عددا كبيرا من المرات حتى يحصل على تغيير جذري.”

بادئ ذو بدء تتحدد هوية المثقف الملتزم وفق المميزات التالية:
– المستقل هو- إضافة إلى كونه إنسان يتمتع بجملة من الحقوق الأساسية مثل الحياة والملكية والحرية – هو أيضا مواطن مطالب بأن يؤدي جملة من الالتزامات والواجبات التي تفرضها القوانين مثل المشاركة والنقد وإبداء الرأي والتشجيع على ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان .
– المستقل هو الوسيط الممكن والافتراضي بين القوى السياسية المتباينة والمتنافسة وباعث الفعل التواصلي ومدبر الطرق الشرعية لأخلاق النقاش في الفضاء العمومي وذلك للمنزلة الوسطى التي يحتلها ولدرجة القرب والبعد التي يتموقع ضمنها بالمقارنة مع الجميع.
– ليس المستقل إنسانا مستقيلا ولا كائنا لامباليا يعيد إنتاج الثقافة السائدة ويحافظ على مصالح طبقة مهيمنة وإنما هو فرد له موقف نقدي وواع بموقعه ومسؤول عن أفعاله ويريد آن يكون بمثابة المثقف العضوي الذي يمثل الطبقات الاجتماعية المضطهدة ويعبر عن طموحاتها في التحرر والحلم بمستقبل أفضل.
– المستقل هو من خلال مشاركته الفعالة يكرس التعددية الحقيقية والتنوع الايجابي واللامركزية المنشودة ويثور على نمطية الإنسان ذي البعد الواحد والعلاقة الفوقية والتسيير الشخصي والحكم الفردي وهرمية التنظيم ويفسح المجال للقواعد من أجل إبداء الرأي والتأثير في القرار ويجبر المنسقين على استشارة الحزام السياسي والإنصات بجدية إلى مقترحاته الاستشرافية.
– إن رفض المستقل الانتماء الحزبي لا يعني عدم إيمانه بالثقافة الديمقراطية وتغييبه للبعد السياسي من كينونته البشرية باعتباره حيوان سياسي بالطبع عند أرسطو وبالاصطناع عند اسبينوزا وإنما هو يتخذ مسافة نقدية من الجميع حتى يتحرر من الوصاية ورغبة منه في تطوير شروط عقلانية للعمل المشترك وخلق ظروف مناسبة للفعل السياسي يكون فيها أكثر دافعية وفاعلية.
– المستقل يساهم في تنضيج التجربة السياسية في المعارضة ويقوى الفعل السياسي الحصيف ويرفد الصوت الاحتجاجي بفلسفة البراكسيس ويعقلن الممارسة عبر تفعيل آلية النقد الذاتي والمحاسبة الفردية والديمقراطية الداخلية ويبشر بالسياسة الحيوية.
– لا ينطلق المستقل من نظرية جاهزة ومن برنامج حزبي سابق ولا يحتكم إلى خلفية ايديولوجية مغلقة وإنما يتميز بالمرونة والانفتاح ويحرص على التطوير والاجتهاد ويجعل التجربة السياسية اليومية هي المجس في تحديد الخيارات ويحرص على التوافق والتفاهم على القواسم المشتركة بين جميع مكونات المشهد السياسي والمدني.
– ينتمي المستقل إلى نمط المثقف الملتزم الذي يلبي نداء الواجب ويصغي إلى صوت الضمير المستيقظ داخله ويمارس “سياسة المثقفين” ويبدي حماسة تجاه الثورة وإرادة نحو التفكير الاستراتيجي ولكنه يدرك أهمية التجبيه و”الضرورة الكبرى للمجموع” السياسي ويبحث عن التناغم بين الغايات والوسائل ويتبنى الواقعية السياسية النقدية أو البنائية.
2- من أين يأتي المثقف الملتزم؟

“كيف يمكن للمرء أن يجعل نفسه إنسانا في التاريخ وبالتاريخ ومن أجل التاريخ؟”

ان الفضاءات التي يمكن أن ينحدر منها المستقل متنوعة ومختلفة، إذ هناك الفضاء الثقافي والفكري والعلمي والفلسفي وذلك لخصوصية هذه المواد الإنسانية وأهميتها في تنضيج الوعي التاريخي والتحريض على الارتقاء بالواقع والفعل في التاريخ. وهناك الفضاء الإعلامي والصحفي والفني وهو فضاء قادر على صناعة رأي عام مضاد وتحويل سلطة الإعلام والتعبير إلى سلطة رابعة تجهر بالحقيقة وتنقل الحدث. الفضاء الثالث هو الفضاء الجمعياتي النسوي وذلك لحساسية الموضوع وإلزامية التشبث بالمكاسب ومقاومة أشكال الارتداد والتصدي للعنف ضد النساء والتهميش الذي يطال المتخرجات نتيجة البطالة وهشاشة آلية التشغيل. الفضاء الرابع هو النشاط الحقوقي والقانوني وخاصة من فئة المحامين والقضاة وهم فئة مهمة قصد اكتساب ثقافة دقيقة بالدستور والعملية الديمقراطية والقوانين الترتيبية والحرص على الفصل بين السلطات واحترام القيم الجمهورية والمعاهدات والاتفاقيات والنصوص التشريعية الأساسية.
المجال الخامس هو المجال الاجتماعي والنقابي والسياسي والبيئي ويتمثل في وجود عدة شخصيات وكوادر نقابية تدافع عن التعددية والتداول السلمي للسلطة وتؤمن بالعمل السياسي القانوني ومحيط نظيف وحياة عصرية وتطمح إلى إفادة المجتمع بخبراتها التنظيمية والتسييرية من أجل انجاز إصلاح سياسي والارتقاء بالحياة المدنية نحو الأفضل وإقامة جسور التواصل بين المجال الخاص والمجال العام.
المجال السادس هو المجال الديني ويظهر اليوم عدد كبير من الأشخاص مواقف سياسية ويعتبرون أنفسهم مواطنين ومعنيين بالشأن العام وخاصة الأفراد الذين لهم قناعات دينية أو يمارسون خطط دينية كرجال الدين والفقهاء والمفتين والمرجعيات ويرون أن السياسة ليست حكرا على العلمانيين بل ان جوهر العلمانية هو الذي تحترم فيه حرية المعتقد وتشريك جميع الناس في الحياة السياسية .
إن المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني ومن السلطة السياسية هو تنقية الأجواء وإيجاد انفراج وكسب الثقة وتوفير الفرصة كاملة للمستقلين لكي يتحولوا إلى قوة ضغط حقيقية على الساحة السياسية من أجل توحيد المعارضة وتنمية الحياة السياسية وتجديد المقولات والمفاهيم والتحدث بلغة مباشرة يفهمها الناس وتساعدهم على التعبير من مشاكلهم والتحديات التي يواجهونها ويبحثون معا عن إيجاد حلول ممكنة.
ألم يقل سارتر:”كان علينا واجب ربما لن يتوافر لنا من القوة ما يعيننا على أدائه وهو الجمع بين المطلق الميتافيزيقي ونسبية الواقع التاريخي والتوفيق بينهما” ، فكيف يتفادى المرء الهروب من أدب الظروف العصية من أجل المحافظة على الأيدي النقية؟ وما السبيل الذي يجب أن يتبعه لكي يساهم فعليا في التقدم التاريخي لمجتمعه؟

3- ماهو دور المثقف المستقل؟

إن “مشكلة الحرية السياسية قابلة للحل وذلك بوضع أسس نظام عادل يعطي كل فرد الحرية الكافية التي هي من حق الفرد العقلاني” .

غني عن البيان أن المثقف الملتزم يحرص على القيام بجملة من الاجتهادات وتجسيم عدد من القيم نذكر منها ما يلي:
– التشجيع على الاستقلالية وعلى مشاركة المستقلين في السياسة الحضارية والعمل المشترك والتدخل في الشأن العام لأن “الديمقراطية تشكل نظاما سياسيا معقدا بمعنى أنها تحيا بالتعددية والمنافسة والتضاد” وأكيد أن المستقلين هم مصدر وجود التنافس والتعدد والتضاد.
– السلطة القسرية غير كافية للحفاظ على وحدة المجتمع والسلم الاجتماعي ويجب أن تقوم علاقات حوارية بينها والمجتمع وأن تدمج المجموعات التي تعارضها في سياقها وتفعل جدليات المنافسة والتحالف من جهة والمزاحمة والتراضي من جهة أخرى.
– إحداث شريحة مثقفة جديدة ملتزمة تكون قادرة على تنمية وإدارة مطلب ثقافي جديد يعبر عن تطلعات ورغبات الطبقة الناشئة في الحرية العضوية والتقدم المنشود.
– الحد من تفسخ النسيج الاجتماعي والتفكك الأسري والانحطاط الأخلاقي وضعف العامل التربوي والرمزية الثقافية للأشخاص.
– تخفيف التوتر القائم حاليا بين الفضاء العام والفضاء الخاص وتعميم ماهو خاص (الحياة الشخصية) وخوصصة ماهو عام (السياسة).
– استثمار الوسائط الإعلامية كوسائل تساعد على وضع النظام السياسي القائم في إطار قانوني واجتماعي واقتصادي قائم على المساواة والإنصاف.
– توفير المرجعيات المتنوعة والعوامل المساعدة على رسم ملامح برنامج سياسي صائب يواجه الانحرافات ويصلح الخروقات ويحد من التعديات على حقوق المواطنة. بين اذن”إن الرغبة في السيطرة هي في حد ذاتها مؤشر اللاعقلانية ويمكن علاجها بالوسائل العقلانية”
علاوة على ذلك يبدو من الضروري على المثقف المستقل أن يجمع بين السيادة الوطنية التي تتأسس على مبدأ المساواة بين الأفراد وحقوق المواطنة الايجابية باعتبارها عماد النظام الديمقراطي وغايتها المثلى ولكونها وضع سياسي وقانوني يتميز بالتعددية والتداولية ويسمح للشعب أن يقرر مصيره بنفسه. هكذا “تظهر المواطنة كمقولة سياسية وقانونية قادرة على أن تعالج مصلحة الدولة فوق أرضيتها بوسائل وأدوات وحقوق وواجبات نوعية لضبط الجانب الشرعي وتقليص والغاب الجانب غير الشرعي” .
نستخلص من ذلك أن دور المستقل هام في تعزيز قيم المواطنة والدفع نحو الانتقال الديمقراطي طالما أن المواطن هو الحلقة المفقودة ويمثل الأثر الحاسم في التحولات والانتقالات من نظام يتجه ببطء نحو الديمقراطية إلى نظام ديمقراطي على مستوى القول والفكر والممارسة وتديره مؤسسات عصرية.
إن رهان المثقف المستقل الأساسي ليس الرد الفردي والخجول على النمط الشمولي لاحتكار السلطة الساحة السياسية ومواجهة التطور الامبريالي للرأسمالية في اتجاه عولمة متوحشة بمفرده وإنما هو مراكمة التجربة والتحول إلى بؤرة مقاومة وربط مجهوده بما بذله آخرون وتأسيس نفسية المنتج ومبدع التاريخ عند المواطن وتحويل الديمقراطية إلى ذهنية والحصول على فكر محايث ومجدد للحياة.
لكن ما العمل إذا كنا أمام حلول ترقيعية وظرفية لمشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية عويصة ومتأبدة؟ وألا يرجع انغلاق العالم السياسي إلى مشاكل مفتعلة زائفة؟ وإذا ما كانت المشكلة السياسية حقيقية ومطروحة بشكل ديمقراطي ألا تصبح من حيث المبدأ قابلة للحل ؟ ألم يقل أنطونيو غرامشي:”إن المجتمع لا يضع لنفسه أية مهمة لم تتوافر بعد الشروط الضرورية والكافية لحلها آو الشروط التي تكون على الأقل في طريقها إلى الظهور والنمو…وان المجتمع لا ينتقض ولا يمكن إبداله ما لم يتم جميع صور الحياة التي تحتويها ضمنا علاقاته”؟ ولكن متى تتوفر الشروط اللازمة والضرورية للانتقال الديمقراطي المنشود؟ وماهو الدور الذي يضطلع به المثقف المستقل في هذا الانتقال؟

المراجع:

  • أدغار موران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي،صدر عن كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009.
  • ايزيا برلين، حدود الحرية، ترجمة جمانا طالب، دار الساقي.بيروت، الطبعة الأولى،1996.
  • جاك تكسيه، غرامشي دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول ،سلسلة أصول الفكر الاشتراكي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، الطبعة الأولى 1973
  • Anicet Le Pors, la citoyenneté, que sais-je ? PUF, Paris, 1999.
  • J.P. Sartre, Qu’est-ce que la littérature ?, éditions Gallimard, 1964.
  • Vincent Descombes, Philosophie par gros temps, les éditions de minuit, Paris, 1989.

إغلاق