درس محور وجود الغير
المجزوءة: مجزوءة الوضع البشري
المفهوم: مفهوم الغير
المحور الأول: محور وجود الغير
“العزلة أمر جيد، لكنك تحتاج شخصا لتخبره أن العزلة أمر جيد.” بلزاك
-
التأطير الإشكالي للمحور
إن أول ما يجب التفكير فيه، والتفلسف حوله، ونحن نشتغل على مفهوم الغير، هو إشكال وجود الغير، فالذات في حاجة إلى وعي ذاتها وإدراكها وجودها، وبالتالي يقتضي الأمر البحث إن كان وجوده شرطا ضروريا لوعي الذات لذاتها وإدراكها لوجودها، أم أن الذات في غير حاجة إلى الغير، وأنها تستطيع وعي ذاتها وإدراك وجودها في استقلال تام عن الغير. وهنا يمكن طرح تساؤلات وإشكالات فلسفية من قبيل:
- هل وجود الغير شرط ضروري لوعي الذات لذاتها وإدراكها لوجودها أم أن الذات في غنى عن وجود الغير؟
- إذا كان وجود الغير ضروريا ففيم تتجلى ضرورته؟
- إذا كانت الذات في غير حاجة إلى الغير فكيف تستطيع الذات إدراك ووعي ذاتها؟
موقف وتصور رونيه ديكارت: وجود الغير مجرد وجود افتراضي، ولا حاجة إليه لتدرك الذات وجودها ولتعي وذاتها
يعتبر الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت، رائد الفلسفة العقلانية رونيه ديكارت، يعتبر وجود الغير مجرد وجود افتراضي، أي أن وجود يمكن الشك فيه. فالحقيقة الوحيدة التي لا شك فيها ولا غبار عليها، هي حقيقة الذات المفكرة، والتي عبر عنها بمفهوم الكوجيطو، الذي مضمونه “أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود”. وفي هذا السياق يقول ديكارت: “نعم أرى أجسادا تتحرك أمامي وتتحدث، ولكن بأي حق وانطلاقا من أي دليل أستطيع أن أتيقن من كون هاته الأجساد ذواتا واعية”. وإذا انطلقنا من الكوجيطو “أنا أشك إذن أن أفكر إذن أنا موجود”، فسيتبين لنا أن وجود الذات رهين بالفكر، وليس بشيء آخر، كما أن التفكير رهين بالعقل، فالعقل كما يراه ديكارت نور فطري، ومن خلاله تستطيع الذات وعي ذاتها وإدراكها وجودها دونما حاجة إلى ما هو خارجي، بما في ذلك الغير.
- أهمية الموقف: تتجلى أهمية موقف ديكارت في انتصاره للذات، والنظر إليها باعتبارها ذات مفكرة وعاقلة، وأيضا باعتبارها ذات مستقلة.
- نقد الموقف: ما يمكن أن ننتقد فيه موقف رونيه ديكارت هو النفي التام لأهمية وجود الغير، الذي له دور في تشكيل الوجود الإنساني، وفي وعي الذات لذاتها. كما أن القول بالاستقلالية التامة للذات، قد يخلق نوعا من الفردانية والانعزالية، وهو ما انتبه إليه جورج غوسدورف (انظر درس قيمة الشخص). ويمكن نقد موقفه من خلال موقفي سارتر وهيغل.
موقف وتصور فريديرك هيغل: وجود الغير ضروري من أجل تحقيق الاعتراف بالذات كذات وكوعي
ينطلق من كون وجود الذات _كما وجود الغير_ يكون في البداية وجودا لذاته، حيث يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة إليه، ويكون وجوده هذا مجرد وجود بسيط، ووجود فردي. لذلك يقول هيجل : إنهما _الأنا والغير_ مجبران بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للآخر”. إذن فالغير حسب هيغل هو ما سيمكن الذات من وعيها بذاتها، وانتقالها من وجودها البسيط، ووجودها الفردي، إلى مستوى الحقيقة، ومستوى الاعتراف بالذات. لكن، تحقيق الذات للاعتراف من طرف الغير، لن يتم إلى عبر الصراع، صراع يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما حتى الموت. ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا الاعتراف، وإنما يحققه استسلام أحد الطرفين، بتفضيله للحياة على الموت. وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى: علاقة السيد بالعبد. وبالتالي فهيغل يرى ضرورة وجود الغير، من أجل أن تدرك الذات ذاتها، وتسموا بوجودها، وتحقق اعترافا بذاتها.
موقف وتصور جان بول سارتر: وجود الغير ضروري، فالغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي
لا يختلف الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بول سارتر عن فريديك هيغل بخصوص ضرورة وأهمية وجود الغير، لكنه يختلف عنه في ما يجعل وجود الغير ضرورة بالنسبة للذات. إذا كان هيغل يرى أن حاجة الذات إلى الغير تكمن في حاجة كل منهما إلى الإعتراف به كذات وكوعي، فسارتر يرى أن أهمية وجود الغير تكمن في كون الغير يمكن الذات من إدراك كل بنيات وجودها، كما أن الغير يلعب دور الوسيط بين الذات وذاتها، وهنا يقول جان بول سارتر: “الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي”. ومضمون هذا القول أن الغير يمثل رابط ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه بين الذات وذاتها. ولتوضيح وتأكيد موقف، يقف سارتر عن ظاهرة سيكولوجية تنتاب الذات، وهي الخجل، فالخجل “شعور غير مباشر بالذات كخجل”، وبتعبير آخر، فالخجل نمط من أناط وجود الذات، ولكن، لولا وجود الغير لما استطاعت الذات أن تدرك أنها تخجل، وأنها تعيش تجربة شعورية وهي تجربة الخجل. وفي السياق ذاته يقول سارتر: “بظهور الغير أصبح في مقدوري أن أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما”، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل، أنه في غياب الغير، لا تستطيع الذات أن تصدر أحكاما قيمية على ذاتها، كأن تدرك أنه قامت بحركة سوقية…
- قيمة وحدود الموقفين
تتجلى أهمية موقفي فريدريك هيغل وجان بول سارتر، في نظرتهما الإيجابية إلى الغير، واعتبارهما إياه ضرورة وجودية بالنسبة للذات، وهذا تجاوز للتصورات التي اعتبرت وجود الغير مجرد وجود ثانوي، ولا حاجة إليه عندما يتعلق الأمر بوعي الذات لذاتها. لكن القول بالضرورة الحتمية لوجود الغير، قد يضرب في استقلالية الذات، وهذا ما يدعونا ضرورة إلى الانفتاح على الموقف الديكارتي.
-
خلاصة تركيبية
إن أبرز ما يمكن أن نستنتجه هو أن مفهوم الغير مفهوم فلسفي بامتياز، وأن هذا المفهوم قادنا إلى التفكير في إشكال فلسفي وهو إشكال جود الغير. ولعل ما يمكن أن نؤكد عليه بخصوص وجود الغير، وانطلاقا مما سبق، هو أن وجود الغير شرط ضروري، وفي غيابه لا يمكن للذات أن تدرك بشكل كلي كل بنيات وجودها، كما أنه لولا وجود الغير لما استطاعت الذات أن تحقق اعترافها بذاتها، فالذات الإنسانية وحدها يمكن أن تعترف بالذات الأخرى. لكن هذا لا ينفي قدرة الذات على وعي ذاتها، فالذات الإنسانية ذات مفكرة عاقلة وواعية، وهي بذلك قادرة على الاستقلال عن الغير حين يتعلق الأمر بوعي الذات وإدراك الوجود، وإن كان هذا الاستقلال استقلالا جزئيا. وهكذا يتبين لنا أن الوجود الإنسان وجودا ذاتيا من جهة، ووجودا معويا من جهة أخرى.