جون لوك وإشكالية الحرية – حـمـزة كـدة
حمزة كدة – المدرسة العليا للأساتذة – الرباط
من كان يقول إن تلك الرياح التي اجتاحت البشرية لمغالبة القيود وبلوغ التحرر، ستفشل في إزالة العقدة الغامضة والعالقة بمسألة “الحرية”؛ إذ ما يفنى متن أي مفكر عبر التاريخ إلا ونظر للبوسها. بيد أن العقدة الكامنة بهذه المعضلة، حالت دون توضيحها، لأن مفهوم “الحرية” هو مفهوم زئبقي يجدد ذاته بذاته، ويتأقلم داخل ظروف أي عصر من العصور.
وقد ألمع لنا الزمان، أن مسألة الحرية هي أكثر المسائل الفلسفية تعقيداً وغموضاً. ذلك لأنها مفهوم نظري هلامي وهيولي -إن صح القول-. إذ إن استنبات وتمييع هذا المفهوم من لدن النظريات والتصورات التي ارتبطت به عبر تاريخ الفكر الفلسفي، لا تعفينا من فتح هذا السؤال مجدداً ومن البحث عن الإجابات الملائمة والممكنة لوضعيتنا الأنطولوجية. ولا غرو في أن سؤال الحرية، يستمد مشروعيته من ذاته، من دلالته، ومن ضمنياته ورهاناته، لا من تاريخيته. ذلك لأننا لم نختار أن نفكر في الحرية، وإنما أوضاعنا المزرية وأرقنا الأنطولوجي هو الذي دفعنا إلى ذلك.
وفي خضم هذه المادة المعرفية الماثلة أمامكم، سنقدم لكم نظرة سطحية إلى شاملة، لمشرب جون لوك الإنجليزي المنتمي إلى القرن السابع عشر، والذي يعتبره كثير من مؤرخي الأفكار والباحثين في الفكر السياسي، رائد الليبرالية.
داخل سيلان الأحداث الكبرى التي عصفت في أوروبا، ولد الفيلسوف والطبيب والسياسي الإنجليزي جون لوك سنة 1632م. فترعرع داخل كنف مدينته “رنغتون”، ليتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أكسفورد[1].
ذاع صيت لوك بعد تأييده لثورة 1688م[2]، إذ كتب مقالات تدور حول الحكومة، وتتضمن نقداً لفيلمر، وتوماس هوبز الذي أسس رؤيته حول الثورة والحق الطبيعي بشكل مخالف لما نآى إليه جون لوك، ومن ثم شيد رؤيته حول السياسة الليبرالية ومفهوم المواطن ودور الملكة الفردية. وقد عرف بتوقه الشديد إلى تحقيق الحرية، فأسس عمق متنه الفلسفي والسياسي على فكرة الحرية باعتبارها حق طبيعي للفرد. وهذا ما جعله أكثر المفكرين تأثيراً في عصره، إذ ألهمت أعماله العظيمة أجيالاً من الفلاسفة لمتابعة ما بدأت كفولتير وروسو وغيرهم.
إذن؛ كيف تاق جون لوك إلى الحرية وكيف بلورها؟
إن مجمل رؤية لوك حول الحرية، التي تاق لها بشدة، تقر بأن للفرد الحق الطبيعي في حريته وفي الشخصية المتفردة، والتي يجب أن تكون “أخلاقية”. فكانت حرية الإنسان هي شغله الشاغل ومدار مشروعه الفلسفي السياسي وفي ما يلي أهم الأفكار والإقرارات التي جاء بها لوك، عبر ست عوارض ملخصة لأفكاره:
– اعتبر أن الإنسان هو كائن عاقل، والحرية لا تنفصل عن السعادة، على أن هدف وغاية السياسة والفلسفة واحدة، وهي البحث عن السعادة التي تكمن في السلام والإنسجام والأمن، ومن ثم بلوغ الحرية. وقد احتلت الملكية الخاصة عند لوك مكاناً عالياً ومتميزاً، ذلك لأنه اعتبرها سابقة للمجتمع المدني وهي التي تمنح السعادة، إذ إن غايات الحكومة ووظائفها يجب أن تكون للحفاظ على الملكية[3].
كما أن أفكار لوك عن الديمقراطية كانت عبارة عن رؤية مثالية نابعة من طبيعة هذا المفكر الذي وضع حرية الإنسان فوق كل الاعتبارات. إذ أقر على أن جميع الناس سواسية فلا مراتب ولا درجات ولا فئات بين البشر. علاوة على أن جميع الناس أحرارا، ثم تأكيده على أن السلطة السياسية تقوم على أساس التعاقد القائم على التراضي بين طرفي العقد فلا يستطيع أحد أن ينتزع السلطة ويستولي على الحكم رغما عن إرادته[4].
– رأى جون لوك أنه من حق المحكومين مقاومة السلطات عندما تنال من الحقوق الطبيعية خصوصا الحرية والملكية الفردية[5]، ولكن المقاومة في نظره ليس بهدف تحقيق الأماني الشعبية بل الدفاع عن النظام. وقد أقر على أن الهدف من الثورة هو حمل الحاكم على التفكير والعودة لاحترام الشرعية، وهذا التفسير يعني أن لوك لم يطالب أو يشجع على الطغيان أو الثورة الشعبية، ولكن هي فقط مجرد دعوة إلى التعقل وإشعار الحاكم بأن هناك تبرماً ناتجا عن فقد الرعية لحرياتهم وملكياتهم الفردية.
– يعتبر لوك أن الشخصية للفرد سابقة للمجتمع المدني وشرط أساسي المشروعية السلطة، إذ يقول: “إن الفرد ليس كائنا اجتماعيا من الأساس، لكنه يدخل في المجتمع بغية الظفر بحقوقه الطبيعية”. ومن ثم يعتبر الملكية الفردية حقاً لكل فرد، ذلك لأنها مرتبطة بالحفاظ على الذات. وقد ربط لوك بين الملكية والحرية، باعتبار أن الملكية شرطاً أساسياً للحرية. إذ من دون هذا التلاقي والتلاقح بين هذين الإثنتين لم يكن لوك أن يؤسس نظريته السياسية بتلك الجذور العميقة. هذا وفضلا على أن طروحاته ومقالاته وانتقاداته تكررب بها عدة مفاهيم، من قبيل؛ الحق الطبيعي، الشخصية، الملكية، الفرد، السلطة، المشروعية..
– يرى جون لوك أن الملكية هي بالأساس ذات طابع فردي، إذ ربط بين هدف إقامة السلطة والملكية. يقول: “إذا كان هدف إقامة السلطة السياسية حماية ملك الفرد، فإن الحقوق السياسية والمدنية تحددها الملكية بالضرورة”. وقد أقر كذلك بالمساواة بين الأفراد في الحقوق الطبيعية، ويبرر عدم المساواة في مجالات السياسة المرتبطة بالحقوق، إذ إنه “يشير إلى فكرة أن الإنسان ليس وحده في الحالة الطبيعية لأن بقية البشر يعمرون الأرض أيضاً”[6]. ويقول: “الحقوق الطبيعية ومن بينها الحق في العمل والملكية والمراكمة اللامحدودة تقود بالضرورة إلى التفاوت في الحقوق المدنية والسياسية”.
– لقد نقض لوك السلطة المطلقة، التي نظر لها توماس هوبز، ذلك لأن لوك اعتبرها قرين الطغيان، حيث يقول: “هي عبارة عن ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حق أبداً، والتي تستجيد أن تكون حقاً لشخص ما، والطغيان استخدام السلطة من شخص لمصلحته الخاصة، لا من أجل منع الخير لعموم المحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الحاكم إرادته قاعدة السلوك عوضاً عن القانون، وعندما ما تتجه أفعاله نحو إرضاء تطلعاته، أو شفاء غليله عوضاً عن المحافظة على مكتسبات شعبه”.
– صاغ لوك الفردانية بصيغ ضابطة لها، إذ لا يكون الإنسان مكتملا في إنسانيته، إلا إذا كان حراً ومستقلا عن إرادة الآخر، بمعنى أن كمال الإنسان يتحقق بالاستقلال عن الآخر. ومن ثم يسعى الإنسان الحر إلى تحقيق مصلحته الخاصة. وقد أقر كذلك أن المجتمع هو مجموع علاقات السوق، كما أن حرية الفرد وإنسانيته تحد بالاتزامات والقواعد الضرورية، التي تضمن لجميع الحرية والاستقلالية.
زبدة القول؛ إن هذا الرجل الذي تاق توقاً شديداً لإشكالية الحرية وجعلها شغله الشاغل، أقر على أنها هبة طبيعية للإنسان. إذ أنه لا يستمدها من المجموعة ولا يكتسبها من خضوعه لسلطة الدولة، بل هو حر بصورة أصلية طبيعية، أو هو حر “ماهويا”. بمعنى أن الإنسان -حسبه- حر لأنه عاقل، والحرية هي تصرف تبعا لإرادته، إذ ترتكز على كونه يتحلى بالعقل الذي يكشف له من تلك السنة التي ينبغي أن يخضع لها ويطلعه على مدى حرية إرادته.
_____________
-
المراجع والحواشي:
[1]: محمد نبيل الشيمي – جون لوك العاشق للحرية – الحوار المتمدن، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.
[2]: الثورة المجيدة، عرفت بإسم “ثورة 1688″، إذ عزل على إثرها الملك جيمس الثاني حاكم إنجلترا واسكتلندا وإيرلندا في نوفمبر من عام. 1688، ونصبت ابنته ماري الثانية وإبن شقيقه الهولندي ويليام الثالث زوج لابنته ماري.
[3]: فهد السفيران – جون لوك: حرية الفرد تحدها الالتزامات والقواعد – الشرف الأوسط، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.
[4]: نفسه.
[5]: نفسه.
[6]: محمد مطيع – الحقوق الطبيعية عند جون لوك – مجلة وندرلاست، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.