تطور الذكاء الاصطناعي بين الرمزي والعرفاني والعصبي – د. زهير الخويلدي

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

مقدمة:

” الذكاء الاصطناعي (IA) هو مجال علوم الكمبيوتر، وهو مجموعة من التخصصات التي تركز على التفكير وتقليد القدرات البشرية.”[1]

إذا كان حرص الإنسان على إيجاد آلات ذكية تساعده في القيام بوظائفه المعرفية يعود إلى الزمن القديم فإن الاختصاص المعرفي الذي اختص في هذا المجال واقتلع مكانه من بين التطبيقات الدقيقة هو معاصر.

يشهد الذكاء الاصطناعي في المرحلة الراهنة تطورا اقتصاديا هاما ضمن إطار الإعلامية المتقدمة وقد تم ترجمة هذا التقدم عبر المشاريع الكبرى في البحث الوطني والدولي في الدولة المتحكمة في سيادة العالم وعن طريق التطبيقات التي عرفت نجاحات كبيرة في المجال الصناعي وداخل قطاع الخدمات والإدارة.

لقد اعتمد المنظرون للذكاء الاصطناعي على مقاربات متنوعة وتعريفات مختلفة تبعا لتنوع واختلاف التقاليد والإحالات التي اعتمدوها ورجعوا إلى الجذور والينابيع الأسطورية والدينية عند الإغريق والشرق واخذوا من التراث والتاريخ ما يدل على قدرة الكائن البشري على خلق كائنات اصطناعية ذكية شبيهة به.

الإشكالي في عبارة الذكاء الاصطناعي لا يثار من جهة الاصطناعي فهذا المضاف على غاية من البداهة وإنما من جهة الذكاء فهذا الأمر مطلب عزيز وقيمة ثابتة يبحث عنها الكل وتتداخل فيه العديد من العوامل.

لقد غمر تأثير الذكاء الاصطناعي العديد من المجالات الحيوية وغطى الكثير من القطاعات الحساسة من الاقتصاد وخاصة الصناعة والبنوك والمالية والنقل والمؤسسة العسكرية والفضاءات التجارية والتسويق. لكن ما المقصود بالذكاء الاصطناعي؟ وماهي عوامل تطوره؟ وكيف تحرك مفهومه حول أنساق معرفية؟  وهل الذكاء معطى طبيعي أم هو مهارة مكتسبة؟ وماهو الفرق بين الذكاء العاطفي والذكاء الاصطناعي؟ ولماذا أدت هذه التحولات إلى ميلاد العلوم العصبية ؟ وماذا حصل تحديدا داخل قطاع الفلسفة البيولوجية؟ وماهي انعكاسات هذه الثورة المعرفية الدقيقة على التصورات الايكولوجية في الحياة والبيئة والمحيط؟

قد يكون الرهان الحقيقي الذي يمكن رصده لهذا المبحث هو محاولة ردم الفجوة الرقمية والدخول إلى العصر الافتراضي من زاوية الذكاء الاصطناعي والمنعطف العرفاني2[2] والنظرية العصبية3[3] ولكن الأهم من كل ذلك تحفيز العقل الفلسفي بغية توجيهه نحو المجالات التطبيقية والاستفادة من التحولات التي تعصف بعالم المعرفة بغية صناعة الذكاء والارتفاع في سلم التقنية والتعويل على الهندسة والبرمجيات في التخطيط للمستقبل واستشراف الآتي من خلال اللحاق بالركب الحضاري واستيعاب المنجز المعرفي.

1- مصطلح الذكاء الاصطناعي:

” لفترة طويلة ، كان لدى الذكاء الاصطناعي تقاطع واسع مع التعلم الآلي ، وهو نهج يستخلص المعرفة من البيانات. لقد أحدثت التطورات المذهلة في الشبكات العصبية العميقة ، وخاصة في مجال الإدراك الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة ، لكن مجال الذكاء الاصطناعي آخذ في التقلص.”4[4]

أحاط الكثير من الغموض والالتباس الحقل الدلالي والسياق المفهومي الذي ظهر فيه الذكاء الاصطناعي سنة 1956 وبقي إلى حد الآن محال سجال وقضية خلافية بين المؤرخين ومعظم المتابعين للثورة الرقمية.  من جهة أخرى يتعلق الذكاء الاصطناعي بالكيفية التي تدقا دبها الآلات عن طريق خيرة الأدمغة البشرية والحواسيب والأدمغة الالكترونية من حيث هي منظومات رمزية ذات بنية معقدة تؤدي مهمات جديدة5[5].

بطبيعة الحال يتضمن الذكاء الاصطناعيIA القدرات المكتسبة التي يحصل عليها الذكاء البشري بشكل عادي على غرار الحصول على المعرفة والتعلم والإدراك والرؤية والسمع والتفكير والاستدلال واتخاذ القرار ويزيد قدرات جديدة دقيقة وأكثر تنظيم ومرتبطة بالماضي أو بالمستقبل في التوقع والاستشراف.

يرتكز عمل الذكاء الاصطناعي على إعادة الإنتاج بواسطة برنامج يتم تخزينه في الحاسوب ويتضمن جملة من التصرفات الذكية دون تدخل الكائن البشري ودون الاكتفاء باستنساخ الوظيفة الأصلية للدماغ.

بهذا المعنى يمثل الذكاء الاصطناعي فرعا متقدما من علوم الإعلامية وتقنيات التحكم والتوجيه والتي تندرج ضمن السبيرنيطيقا وتستعمل مجموعة من الآليات الدقيقة من أجل تحقيق عدة مكاسب متطورة6[6].

بيد أن هذا الاقتران بين الذكاء الاصطناعي والإعلامية لا يمنع ما يتميز به من طابع عابر للاختصاصات والمناهج واحتلاله موقع الملتقى ومكان الذي تتقابل فيه جملة من العلوم والتقنيات والأنشطة وتتقاطع فيه.

يمكن ربط تاريخ ظهور الذكاء الاصطناعي بمختلف المحاولات التي بذلها العلماء لكي يخترعوا آلات ذكية ضمن المؤسسات والشركات الحاضنة لهم ولقد ارتبطت بالمقاربة السيبرنيطيقية منذ 1956 حيث عمد مجموعة من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية من مختلف الاختصاصات والمشارب على غرار الرياضيات والمنطق والإعلامية وعلم الاجتماع وعلم النفس على بلورة مشروع بحثي مشترك أطلقوا عليه اسم الذكاء الاصطناعي ويجمع بين البرهنة الرياضية على المبرهنات والترجمة والألعاب.

بعد ذلك عرفت الفترة الممتدة بين 1956 و1960 وضع برامج علمية وتقنية حول إيجاد حلول عامة للمشاكل أو ما يعرفGPS من طرف سيمون ونويل وتركزت الأعمال حول برامج الترجمة الآلية.

بشكل مواز طور ماكارثي سنة 1959 اللغات الأساسية للبرمجة الخاصة بالذكاء الاصطناعي وكان قد سبقه بعام في البحوث برسبتون روزانبلات بابتكار آلة تحاول محاكاة الوظائف التي يقوم بها الدماغ.

أما الفترة التي امتدت بين 1960 و1965 فقد تميزت بهيكلة البحوث حول المواضيع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وتركيز كبير على لعبة الإخفاقات وفق المقاربة الرياضية المنطقية التي تبحث عن ترجمة النشاط البشري من خلال نماذج مجردة وتستعمل برامج ألعاب ووفق الاستبطان والملاحظة الداخلية.

شهد النصف الثاني من العقد السادس من القرن الماضي أي 1965 إلى 1970 مراجعات وانتقادات بعد قدم بار-هليل تقريرا حول إخفاق الترجمة الآلية وبعد طبع كتاب مينسكي وبابرت الذي تسبب في إخماد البحوث حول الآلات المنظمة في شبكات وعاد الحديث عن مسألة تمثل المعرفة وطرق استثمار المنطق.

لقد انصبت أعمال نعوم شومسكي حول مسألة فهم الكلام في نفس الاتجاه وتم تنظيم مؤتمر عالمي حول المسألة بحثا عن شرعية المؤسسة الجامعية 69 وصدر العدد الأول من صحيفة الذكاء الاصطناعي1970.

على إثر ذلك تميزت الفترة بين 1970 و1978 بالثراء في البحوث والاتساع في المواضيع والمشاركين وانصبت حول فهم الكلام الطبيعي قام بها شردرال وسام وبام وحول أنساق الخبرة مع دندرال وميسين.

لقد بدأ الإنسان يعول على الحاسوب لكي يقوم بأفعال ذكية عندما يريد أن يصف عالم مغلق أو عالم صغير وأصبح يوظف المباحث حول تمثل المعرفة في وصف المواضيع التي يتكون منها العالم والعلاقات بينها.

بعد ذلك تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال سنوات 1978 إلى 1984 بشكل مذهل وسريع وتعددت أنساق التمثل والخوارزميات وتمكنت من إيجاد حلول للمشاكل المثارة وظهر الذكاء الاصطناعي الرمزي.

بعد سنة 1984 لم تعد التجديدات التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي حاضرة بقوة على الصعيد الإعلامي وبدأ التوجه نحو الاستخدام الصناعي للمنفعة الاجتماعية وتوجه الباحثون نحو العمل الأكثر فائدة تقنية.

يمكن أن نذكر بعض الأسماء التي ساهمت في قيام الذكاء الاصطناعي على غرار جان بول سانسونات وبول بريتون وتميز بين خمس مراحل في تطور هذا الاختصاص: 

العقد الخامس من القرن الماضي عرف تفاؤل كبير ناتج عن التغلب على الكثير من المشاكل وإيجاد حلول للصعوبات وظهور الترجمة الآلية والبرهنة على النظريات والاعتراف بالأقوال وصنع ألعاب الإخفاقات.

العقد السادس الذي جاء بعده من نفس القرن شهد انطلاقة سريعة للاختصاص من خلال إطلاق عدد هام من المشاريع والحصول على نتائج معتبرة من اعتماد البحث الاستكشافي والنسق العام لمعالجة المشاكل.

العقد السابع يناسب انفجار الأعمال التي سمحت بتركيز أسس الذكاء الاصطناعي في مجال تمثل المعارف وامتلاك مهارات التفكير والاستدلال وفهم الكلام الطبيعي وأنظمة الخبراء وصنع الإنسان الآلي المتطور.

العقد الثامن يمثل الدخول الرسمي للذكاء الاصطناعي للحياة الاقتصادية من خلال انجازات تطبيقية لافتة في ميادين محددة وتحقيق معدلات تنمية مشجعة وتزايد المجهود البحثي عن طريق المشاريع الصناعية.

العقد التاسع يعرف إدماج أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن الأنظمة الإعلامية الموجودة وانتشارها بشكل عمومي وإحراز تقدم في عدد من المجالات الأساسية التي ترتبط بالمستقبل وخاصة نظم التعلم والتفكير7[7].  

من هذا المنطلق تتكون الأنساق التي يشتغل وفقها الذكاء الاصطناعي من المصطلحات المفاتيح التالية:

  •  معالجة المعلومات الرمزية مثل الأرقام والمفاهيم والوقائع والمعطيات والقواعد والمواضيع.
  •  استعمال المناهج الاستكشافية بغية الاقتصاد في الوقت المخصص للحساب وحل المشاكل بسرعة.
  •  الأخذ بالاعتبار نقص المعطيات حول الوضعيات وعدم مطابقة المعلومات لها والتنازع عليها.
  •  الدور المركزي للمعرفة في اكتشاف الميكانيزمات وتصور الأنساق القادرة على حل المشاكل.
  •  الطابع المتعدد للمناهج وعابر للاختصاصات للذكاء الاصطناعي يظهر في الحاجة إلى جلب تقنيات متطورة في الإعلامية والبرمجيات بغية تجويد لغة التي تشتغل وفقها الحواسيب والآلات.

لكن الذكاء الاصطناعي يستمد قوته من مصادر أخرى على غرار المنطق والعلوم العرفانية واللسانيات والعلوم العصبية والبيولوجيا والفلسفة . فماهي الميادين والحقول التي يغطيها الذكاء الاصطناعي؟

يقوم الذكاء الاصطناعي بالبرهنة الآلية على النظريات ويعالج الكلام الطبيعي المكتوب ويعالج أيضا القول الشفوي بشكل آلي وفوري ويؤول الصور ويسمح بالرؤية بواسطة الحاسوب ويصنع الإنسان الآلي الذي يسعى لتعويض الإنسان العادي في كل شيء ويقوم بكل الوظائف بدلا عنه مثل الألعاب وأنظمة الخبرة8[8].

يبدو أن المقاربة التي يعتمدها الذكاء  الاصطناعي هي مرتكزة بالأساس على استعمال المعرفة عن طريق الاستنتاج وتمثل المعلومات ويتدعى ذلك نحو ولوج ماوراء المعرفة عبر توظيف الشبكات الدلالية في الاستشراف والتوقع ووضع الخطط الممكنة وتقديم البدائل الافتراضية وتخيل الفرضيات المستقبلية للواقع.

كما يساهم الذكاء الاصطناعي في بناء أنساق متكيفة تجمع بين النماذج الرمزية والنماذج التواصلية تهدف للمحافظة على الذاكرة الترابطية وكونية الذاكرة ثلاثية الأبعاد وتطوير آلات اتصال أكثر قربا وسرعة وإيجاد توثيق دقيق وذكي للمعلومات والبرامج المخزنة بواسطة إستراتيجية الخيارات الأكثر معلوماتية والأقل كلفة والأكثر جاهزية على تقديم الإضافة وإيجاد الحلول للمحركات المعطلة والمتوقفة عن التدفق.

لكن كيف يتم استعمال الذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات الواردة ومعرفة الأشكال ومعالجة الصور؟

2- الذكاء الاصطناعي بين المعرفة الراهنة والمستقبل المنظور:

ماذا يجب أن نقول إلى آلة لكي تمارس التفكير؟ وكيف تتمكن هذه الآلة الذكية من التطور وتراجع أخطاء الماضي وتتأقلم مع المحيط دون أن نحكي لها عن العالم وعجائبه وأسراره ودون أن نشحنها بالمعلومات؟

إن حل معضلة بواسطة إنسان عادي أو إنسان آلي يتطلب توفر عدد كبير من المعلومات وقدرة فعلية على الاستدلال والتفكير والربط والتحليل والمقارنة والتركيب وتتكون المعرفة من مجموعة من الإجراءات وهي المواضيع التي تشكل العالم الواقعي وتتمثل في الوقائع والأحداث والكيانات و الأشياء والعناصر والعلاقات والمجموعات والتصورات الأكثر عمومية واستراتيجيات العلم الصانع وإجراءات الاستدلال.

يصل الذكاء الاصطناعي بالمعرفة إلى مابعدها ويمنح الثقة إلى الرؤية إلى درجة التيقن من الاستدلال ويتحول إلى معرفة بالمعرفة ويتمكن من التمييز باقتدار بين المعرفة وآليات استثمارها على أحسن وجه.

كما يتفحص الصور ويشتغل عل فهمها ويضع الأشكال ضمن مقولات ويرتب المعطيات بطريقة ستاتيكية ثابتة وبصورة تركيبية متحركة ويعرف أسس المعرفة ويكشف عن الإشارات التي تساعد على التواصل.

تعود مشكلة تمثل المعرفة إلى التسجيل التوثيقي الذي تتم به عن طريق الأشكال الرمزية واستثمارها داخل نسق من الاستدلال وتجمع بين بنية المعطيات التي تمثلها المعلومات والطريقة المعتمدة التي تستثمر بها9[9]. بعد ذلك تسمح آلية الاستدلال المتبعة باكتشاف معلومات ومعارف جديدة بصورة ديناميكية حول المشكل المطروح للمعالجة وترتكز على التمثلات المنطقية وقواعد الإنتاج والشبكات الدلالية والمواضيع المهيكلة.

هكذا يتحرك الذكاء الاصطناعي بين المشاكل المثارة وتمثلات المعرفة والاستدلالات الفكرية والنماذج النسقية والمعالجات التطبيقية لإيجاد حلول للقضايا والقيام باكتشافات جديدة وتمكين الإنسان من التحكم.

بلا شك أن الذكاء الاصطناعي يمارس تأثيرا كبيرا على تصور المجتمعات للأنظمة المعلوماتية التي تستعملها وأنه يتحكم في حقول البحث والتطوير في المستقبل ومجالات الاستشراف والاستراتيجيات ويساعد على تجديد التعلم الرمزي وتجويد الأنظمة الذكية وتوسيع التحليل ليشمل المعطيات المعقدة10[10].

ولا يقتصر الذكاء الاصطناعي على حل المشاكل بواسطة الدماغ البشري والحاسوب الآلي بل يوفر نماذج جديدة للاستدلال تأخذ بعين الاعتبار التمشي البشري في الإدراك والاستيعاب والتفاعل وتضم الافتراض والتناسب من جهة الزمن والكيفية والمعماريات المتكيفة مع الواقع ومجتمع المعرفة والترابطات العصبية.

بعد ذلك مر الذكاء الاصطناعي إلى السرعة القصوى وشهد حدوث عدة ثورات واجتاز مختلف المراحل وصار اختصاصا جامعيا هاما مثل بقية الاختصاصات ودخل إلى حقل التطبيقات الصناعية والتكنولوجية.

إذا كان الذكاء الطبيعي يخص الإنسان ويتميز بالموهبة والنور الفطري فإن الذكاء الاصطناعي ينتمي إلى الحاسوب الآلي ويمثل مشروعا علميا مدهشا ويحمل مجموعة من المصنوعات والتحف والقطع الذكية[11].

يبقى الغرض من الذكاء الاصطناعي يكمن في اتجاه الجماعة العلمية نحو بناء نماذج إعلامية تسمح بإعادة إنتاج التصرفات الذكية من خلال التقليد والمحاكاة بواسطة إعادة استخدام الآلات في الوظائف الكبيرة مثل عمليات الفهم والاستدلال والتعرف والتعلم والاختبار والتصرف بطريقة منظمة وحذرة في السياق المحدد. يتطابق تعريف الذكاء الاصطناعي مع النظر إلى الاختصاص الأول في الوقت الراهن والذي يشتغل عليه مجموعة من العلماء والمهندسين والخبراء والباحثين في مجموعات علمية وفرق بحثية متنوعة ومتداخلة.

ينقسم الذكاء الاصطناعي إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول: يرى بأن الذكاء الاصطناعي الرمزي يعتبر نفسه الاختصاص المركزي الذي تتحرك حوله جملة من الاختصاصات الأخرى على غرار الألسنية وعلم النفس ويهتم بالوظائف العرفانية العالية وبحث عن قوانين عامة تسمح بوصف وإعادة وصف العالم ويقر بأن البلورة الإعلامية تعيد إنتاج التصرف الموصوف بالذكاء بصورة تكاد تكون وفية ومطابقة وتحوز بهذا التفسير على صلاحية نفسية وعرفانية متينة.

الاتجاه الثاني: يمثله الذكاء الاصطناعي العصبي ويرتكز على الفيزيولوجيا العصبية ويعتبر القوانين العامة تنبثق بصورة طبيعية عن طريق التعلم ويقر بأن البرنامج يمكن أن يحاكي بطريقة خارجية ناشطا ذكيا حيث تكون المداخل مطابقة تقريبا مع المداخل والمخارج التي يقوم بها الإنسان في وضعية مماثلة، ويبحث في أشكال المحاكاة بين اشتغال الحاسوب والاشتغال البشري. لكن وحدة الهدف المتمثلة محاكاة الذكاء وإعادة إنتاجه هي التي تجمع بين الاتجاهين الرمزي والعصبي. في نفس السياق يؤدي انتقال الذكاء الاصطناعي من التحرك حول الإعلامية الكلاسيكية إلى الإعلامية المتقدمة إلى ارتباطه بالهندسة والتخلّى عن الطموحات الشمولية التي يدعيها واقتصر على معالجة الذكاء في مجموعه. تسمى الحقبة الرمزية تلك التي يستند فيها الذكاء الاصطناعي على تمثلات للعالم الخفي بواسطة عدد من الرموز وأضيف إليها الترابطية أو العصبية التي تتحدى البرنامج الأصلي للذكاء الاصطناعي الرمزي12[12].

إذا كانت المقاربة العصبية13[13] تعتبر أن الذكاء الاصطناعي الرمزي قد وقع في تشويه كبير حينما قام بمعالجة المشاكل العرفانية14[14] التي تنتمي إلى مستوى عال على غرار الاستدلال وفهم الكلام بدل الاكتفاء بمعالجة مشاكل شبه عرفانية تبقى قريبة من قوام الذكاء والمتمثل في الدماغ فإن المقاربة التواصلية[15]  تبحث عن محاكاة الدماغ في مستوى تنظيمه الداخلي وبنيته الهيكلية وفي مستوى تدفق المعلومات وعن إيجاد حلول كافية المشاكل التي صعب على الذكاء الاصطناعي الرمزي معالجتها بشكل كاف ومرضي. بطبيعة الحال تحوز المقاربة الترابطية على الذكاء عن طريق بعض الانجازات الإعلامية في رؤية الحد الأدنى وعبر القدرة التي يمتلكها النسق على تفعيل ارتباطات بين الوحدات العرفانية التي يتكون منها16[16]. لم يبق الذكاء الاصطناعي مجرد استعارة تنتمي إلى ماضي العلم وإنما تطور بشكل واثق وأصبح واقعا ملموسا وتكاثرت المقالات المبتكرة والبحوث المتطورة فيه وتوصلت إلى نحت جهاز مفاهيمي خاص به. كما يعتمد الذكاء الاصطناعي على نماذج ابستيمولوجية مرنة وخوارزميات تكوينية معقدة ويقوم بكشوفات رياضية مبتكرة وتطبيقات فيزيائية وبيولوجية ثمينة ويجمع بين الترابطية وإستراتيجية العجلات العصبية. أما التحليل الآلي الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي للغة الطبيعية فيقوم على التحليل الحتمي للكلام إلى وحدات وعناصر أساسية وبعد ذلك ينتقل إلى الكشف عن شبكات التحويلات والانتقالات المضاعفة ويحرص على تخليص آليات الفهم من الأخطاء ويقوم بتقسيم النحو إلى جوانب صورية ومقولية ودلالية وعرفانية ويعالج الصعوبات التي تحدث عند الكلام ويوفر أدوات مساعدة على النطق والتعبير والتبليغ ويطرح استراتيجيات لتحليل الخطاب ومعالجة الكلمات وتنظيم مصادر المعرفة والرجوع إلى الإحالات.

أما المنطق الذي يفكر به الذكاء الاصطناعي فلا يقتصر على المنطق الكلاسيكي الذي يظل يدور حول البديهيات والمبادئ والأوليات الموروثة عن الإغريق والمطورة بواسطة الرياضيين المحدثين وإنما تشمل المنطق الجديد الذي ينجز حسابات حول القضايا والمحمولات والعلاقات من جهة الدلالات والخصائص والتركيبات البنيوية ويمتحن الأوليات ويراجع البديهيات ويغير في جل المنطلقات والمصادر والتطبيقات.

فكيف اعتمد الذكاء الاصطناعي على المنطق الحدسي الذي يرفض كل بناء غير بنائي في بعد قضووي؟

مراكز عمل الذكاء الاصطناعي هي تطبيقاته على الهندسة المعمارية وعلم الفلك والفزيولوجيا والآلات الرمزية التي تجري معالجة رمزية للغة التقنية وتحوز على قدرة حسابية عالية وتتمتع بوظيفية ناجعة وتقوم بحل المشكلات المثارة عبر انتقاء التمشيات الملائمة وتطوير عملية البحث بالمناهج الاستكشافية.

خاتمة:

على الرغم من عدم توفر تعريف محدد حول مسالة الذكاء الاصطناعي وبقاء هذا المصطلح محور خلاف ويعيش حالة جدلية إلا أن تقريبه من علم الحاسوب قد ساعد على تنزيله ضمن علوم الإعلامية وإدراجه داخل الثورة الرقمية التي تعيشها البشرية في الراهن وإتباع سلوك البرامج الحاسوبية في محاكاتها لأنماط عمل القدرات البشرية واكتسابه مهارات في الاستنتاج والتعلم ورد الفعل في أوضاع غير مبرمجة. لقد تكمن الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال من التشخيص السريع والدقيق للأمراض  أكثر من أطباء الاختصاص حيث تتفوق برامج الحواسيب في التشخيص على تجارب يشارك فيها عدد كبير من الأطباء.

لم يصبح الذكاء الاصطناعي اختصاصا مستقلا وقائم الذات بل يشير إلى جملة من المفاهيم والنظريات والتقنيات يتم استخدامها وإتباعها بغية بلورة مجموعة من الآلات تكون قادرة على محاكاة الذكاء البشري.

لعل الذكاء الاصطناعي هو أكبر أسطورة في هذا العصر يستدعي العلوم العرفانية والبيولوجيا العصبية والمنطق الرياضي وعلوم الإعلامية ويبحث عن مناهج مبتكرة ودقيقة تساعده على حل المشاكل المعقدة.

يواجه الذكاء الاصطناعي الكثير من العراقيل والصعوبات التي تمنعه من التقدم وتعيق تطره وذلك راجع إلى هيمنة الطبيعي على المصنوع وتعود العقل البشري بمنح الأولوية للتجريد على التطبيق والاختراع.

منذ  أن بحث الإنسان عن طرائق ومواد وبرامج تساعده على صناعة الآلات الذكية والحواسيب المفكرة كان أمله معقودا على نجاح هذه المصنوعات في اكتساب قدرات في التعلم الرمزي وفق أبعاد عرفانية.  يعتمد الذكاء الاصطناعي على التعلم بواسطة التفسير والتحليل والشرح والفهم والإقناع ويقوم بالمراوحة بين ادارك العالم الحاضر وتوقع بالمستقبل المباشر أو البعيد ويعالج جملة من الأفعال لبلوغ غاية محددة.

بيد أن رؤية الإنسان لنفسه وتفاعله مع المحيط التي يقترحها الذكاء الاصطناعي تبدو مختزلة وجزئية وتبسيطية وجملة الأفعال الإنسانية هي متقطعة إلى أقسام جزئية ومستقلة تماما عن فاعليها الحقيقيين.

لقد تم تصور الإنسان على أنه آلة مفكرة وحاسبة ووقع التخلي عن كونه ذات مدركة لهويتها وللعالم ومتفاعلة مع محيطها ومتعاطفة مع غيرها من البشر وتقيم علاقات متشابكة وأساق رمزية وسردية.

لقد ارتبط مصير الذكاء الاصطناعي باندلاع الثورة الرقمية وظهور الإنسان الآلي وقدرة الربوتيك على انجاز المطلوب منه بجودة عالية وبالشركات البنائية ذات الأبعاد الحضرية وإطلاق المنصات الإعلامية.

في نهاية المطاف يبدو من المهم فهم صورة الإنسان من منظور البرمجيات التي توفرها الآلات الحاسبة ولكنه من غير المتاح أن يحقق جل طموحاته الوجودية وأهدافه المعنوية إذا ما اختزل نفسه في آلة ذكية. فمتى يتخطى الذكاء الاصطناعي عتبة التعميم والتشخيص والاستنتاج ويتحول إلى قوة اختراع وإبداع؟ إلى ماذا تشبه الآلات الذكية غدا؟ وهل يحق للعقل البشري أن يتخوف من تطور الذكاء الاصطناعي؟

الإحالات والهوامش:

[1] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.

[2] Tournant cognitif

[3] Théorie neuronale

[4] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.

[5] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993. p705

[6] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielleop.cit,p705.

[7] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielleop.cit,p706.

[8] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle,  op.cit,p708.

[9] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p709.

[10] Voir J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.

[11] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris, p710.

[12] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.

[13] Approche neuronale

[14] Problèmes cognitives

[15] Connexionnisme

[16] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.

المصادر والمراجع:

J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.

Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993.

Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.

إغلاق