تحليل السؤال الإشكالي: هل يمكن القول بأن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صداقة فقط؟
نموذج تطبيقي لتحليل السؤال الإشكالي في الامتحان الوطني
هل يمكن القول بأن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صداقة فقط؟
ذ. يوس المرابط
من خلال قراءتنا الأولية، ووقوفنا عند مفاهيم السؤال الإشكالي الذي بين أيدينا يتضح لنا بأنه يعالج إشكالية أساسية ضمن مجزوءة “الوضع البشري” الذي لطالما ما تميز بالتعقيد والتشابك نتيجة تداخل وتقاطع مجموعة من الشروط والأبعاد التي تشكل ماهية الإنسان. وهذه الإشكالية التي يحملها إلينا السؤال المطروح تسلط الضوء على مفهوم “الغير” كذات أخرى تشبه الأنا وتختلف عنها في الآن نفسه، إنه ذاتا بشرية ينظر إليها على أنها تملك وعيا وإرادة، ولهذا المفهوم أهمية كبيرة لدى الفلاسفة والمفكرين عبر تاريخ الفلسفة الأمر الذي يبرر إدراجه ضمن المفاهيم المقرر تدريسها ضمن السنة الثانية من سلك البكالوريا. وتتعلق ب”علاقة الأنا بالغير”، وهنا نجد أنفسنا أمام قضية معقدة تستدعي التفكير، إذ تحيلنا على مفارقة أساسية مفادها أن علاقة الأنا بالغير قد تكون علاقة صداقة الهدف منها تحقيق الاحترام المتبادل وسيادة التسامح والتضامن والتعاطف من جهة، ومن جهة أخرى فإن علاقة الأنا بالغير قد تكون علاقة صراع دائم لنزع الإعتراف، ويمكن معالجة هذه المفارقة التي ينطوي عليها السؤال موضوع التحليل والمناقشة من خلا مجموعة من الإشكالات من قبيل: هل علاقة الأنا بالغير علاقة صداقة أم علاقة غرابة وصراع وتشيء؟ وإلى أي يمكن اعتبار هذه العلاقة صداقة؟
سنفتتح هذا التحليل بالوقوف عند أهم الحروف والمفاهيم المؤثثة لبنية السؤال المطروح، وذلك من أجل فهم منطقه وإدراك خصوصيته، فهل حرف استفهام تخييري بين قضيتين متقابلتين قد يصرح بهما معا، وقد يصرح بإحداهما ويتم إضمار الأخرى، إن الطابع الاستفهامي لهذا الحرف يقتضي إجابتان محتملتان، نعم أو لا، نعم العلاقة مع الغير علاقة صداقة، لا العلاقة مع الغير علاقة صراع. أما الغير فيشير إلى تلك الذات الأخرى المغايرة للأنا والمختلفة عنها، إنه الأنا الأخر منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا وإنما بوصفه ذاتا بشرية تملك وعيا وإرادة، إنه بعبارة أخرى الأنا الذي ليس أنا سواء كان قريبا أو بعيدا. في حين يعني الأنا تلك الذات المفكرة العارفة لنفسها في مقابل الموضوعات التي تتميز عنها وعن فعل تفكيرها، وخاصة حين تتخذ شكل أشياء خارجية مادية محسوسة. وفيما يتعلق بالصداقة الذي يحتل مكانا مركزيا ضمن المفاهيم المكونة لبنية السؤال فإنه يشير إلى الحقيقة والقوة والكمال وإلى علاقة حب وود خالصين بعيدا عن كل نزوع نحو امتلاك المحبوب والاستحواذ عليه كملكية خاصة. هذا التحليل الذي قمنا به لألفاظ السؤال الإشكالي المطروح هو ما يفضي بنا إلى أطروحة مفترضة مفادها أن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صداقة لكن رغم أن هذه هي الأطروحة الظاهرة إلا أن هناك أطروحة ضمنية أخرى يحملها إلينا هذا السؤال ألا وهي أن علاقة الأنا بالغير ليست علاقة صداقة فقط بمعنى أنها قد تكون علاقة صراع أيضا، لكن رغم ذلك إلا أننا سنركز في تحليلنا على الأطروحة الأولى التي يفترضها السؤال والتي تقول بان العلاقة القائمة بين الأنا والغير هي علاقة صداقة. ومعنى ذلك أن علاقة الأنا بالغير هي علاقة حب واحترام متبادل، ما دام أن الغير هو أنا أخر يشترك معي في كثير من الخصائص والمميزات الإنسانية، التي تجعل منه ذاتا تسعى لنسج أقصى جهودهم التشاركية مع الغير، فالأنا دائما في حاجة إلى الغير الذي لا يمكنني العيش بدونه، كما أنه دائما في حاجة إلي ، وما من سبيل إلى الانفتاح عليه واللقاء به، إلا بعقد علاقة صداقة معه. ومن الأمور التي تثبت ذلك في واقعنا المعيشي علاقتنا بأمهاتنا التي تكون في البداية مجرد علاقة الهدف منها تلبية الحاجة إلى الطعام، والتي تتحول فيما بعد بطريقة لا شعورية إلى علاقة صداقة أساسها الحب والاحترام الأمر الذي يجعلنا لا نتقبل فقدان الأم مهما بلغنا من العمر. فما ينطبق هنا على علاقتنا بأمهاتنا قد ينطبق كذلك على علاقتنا بأصدقائنا وبأحبائنا فدائما نحن في حاجة إلى العلاقة مع الأخر لأن الإنسان عاجز على العيش بعيدا على الآخرين والاكتفاء بذاته، والأمر الذي يبرر هذه الحاجة إلى الأخر هو الصداقة التي تتيح لنا الحب والتقدير الكافي لكي نعيش حياة عادية، ومما يدل على دور الصداقة في هذا السياق نجد قول أرسطو الذي مفاده ” إن المواطنين لو تعلق بعضهم ببعض برباط الصداقة لما احتاجوا إلى العدالة”. وهذا ما نجد له حضورا قويا ومركزيا في فلسفة “جوليا كريستيفا” التي رفضت اعتبار الغريب هو ذلك الدخيل الأجنبي الذي يهدد وحدة الجماعة وانسجامها، وأكدت بالمقابل أن الغريب حقا، هو ذلك الذي يسكن دواخلنا على نحو غريب، إنه ذلك المكون اللا شعوري المعبر عن تناقض الذات وتمزقها، الشيء الذي يفرض على الأنا أن تتخلى عن كل أشكال النبذ والإقصاء والتهميش تجاه الغير الغريب وتسعى جاهدة لنسج علاقات صداقة معه، أساسها الحوار والتسامح والاحترام المتبادل. ومن الفلاسفة الذين يؤكدون على ايجابية العلاقة بين الأنا والغير أيضا نجد أرسطو ورائد علم الاجتماع أوغست كونت وكذلك موريس ميرلو بونتي. نستنتج من خلال ما سبق بأن العلاقة التي تجمع بين الأنا والغير هي علاقة صداقة يؤطرها الحب والاحترام، لكن ألا يمكن الحديث كذلك، على أن العلاقة مع الغير ليست علاقة صداقة بقدر ما هي علاقة صراع وغرابة وتشيء؟
للإجابة حول هذا السؤال يجب أن نبرز القيمة الفلسفية للأطروحة التي قمنا بتحليلها، إذ نجدها تتمتع بقيمة فلسفية كبيرة لأنها برزت لنا بأن الحب والاحترام والتقدير هو أساس علاقة المرء بالآخر، وبينت لنا الجوانب الإيجابية للصداقة التي تجمع بين الأنا والأخر، لكن هذا لا يعنى أن هذه الأطروحة هي الجواب النهائي والشافي لإشكالية العلاقة بين الأنا والغير فقط تكون هناك تصورات أخرى تعالج هذه الإشكالية من زاوية مختلفة، والأمر الذي سيبرز لنا أكثر مدى قيمة هذه الأطروحة وحدودها هو استحضار رؤى لفلاسفة اخزين، فهناك من ذهب منهم إلى أن علاقة الأنا بالغير قد تكون علاقة صراع أيضا وليست علاقة صداقة فقط الأمر الذي يعني بأن هذه الأطروحة قد انتبهت إلى مكانة الصداقة في علاقة الأنا بالآخر لكنها أغفلت الجانب الصراعي في هذه العلاقة بمعنى أنه لها مجموعة من الحدود التي سنقف عندها من خلال الفلاسفة الذين يؤكدون على العلاقة الصراعية بين الأنا والغير، ومن بينهم نجد “الكسندر كوجيف” الذي يؤكد بأن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة صراع دائم يتأسس على مبدأ الهيمنة والرغبة في نزع الإعتراف، فكل من الأنا والغير يسعى لنزع الإعتراف به كذات حرة وواعية، إلا أن هذا الإعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما ينتزع عبر صراع يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما حتى الموت، ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا الإعتراف، وإنما يحققه استسلام أحد الطرفين بتفضيله لحياة التبعية على الموت والفناء. إلى جانب هذا التصور نجد تصورا أخر لرائد الوجودية الفرنسي “جون بول سارتر” حيث يؤكد على أن هذه العلاقة هي علاقة تشيئية مادام كل واحد يتعامل مع الأخر كموضوع فقط، فالغير حسبه ذات تزاحمنا في وجودنا وتقلص حريتنا وتفقدنا تلقائيتنا ولا نشعر معه بالاطمئنان. ومن ثم فإن ما يؤكدان عليه هذين الفيلسوفين الأخيرين هو كون العلاقة مع الغير علاقة صراع وتنافر وتشيء.
يستفاد من خلال ما سبق إلى أن إشكالية العلاقة مع الغير أفرزت لنا مجموعة من التصورات المختلفة التي تتعدد بتعدد زوايا النظر الموضوع المراد معالجته، حيث رأت جوليا كريستيفا بأن علاقة الأنا بالغير علاقة صداقة، وبالمقابل أكد الكسندر كوجيف بأن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صراع وهيمنة لنزع الإعتراف، في حين اعتبر جون بول سارتر بأن العلاقة مع الغير هي علاقة تشيئية. يبدو لي كاعتقاد شخصي بأن موقف جوليا كريستيفا أقرب إلى الواقع المعيش، ذلك لأن الواقع الاجتماعي يشهد على أننا دائما ما نسعى إلى تحسين علاقتنا بالآخرين، والاعتذار لهم كلما أخطأنا في حقه، ونحبه كلما ضحى من أجلنا، فهو طرف لا غنى لنا عنه وإلا لكان الجنس البشري قد انقطع لو لم يكن هناك حب واحترام داخل المؤسسات الاجتماعية من الفرد إلى الزوج والزوجة والأسرة إلى القرية إلى المدينة إلى الدولة إلى الكونية. وفي ظل تضارب هذه التصورات الفلسفية واختلافها ألا يمكن القول بأن علاقة الأنا مع الغير هي علاقة صداقة أحيانا وغرابة أحيانا أخرى، أو بالأحرى، علاقة صداقة وغرابة في الآن ذاته؟