الميتافيزيقا وتأصيلها – وقفة مع ديكارت – حمزة كدة
- الميتافيزيقا وتأصيلها – وقفة مع ديكارت
- ذ. حمزة كدة
تقديم :
لا شك أن الدراسات الكرونولوجية للتاريخ البشري، تقدم مواقف مهمة تحيل إلى أن الإنسان منذ أن وجد وهو يجوب الشعائر الميتافيزيقية، ويتخبط في الأسئلة التي تتجاوز ما هو فيزيقي، محاولا اقتحام كهف المواضيع المتعالية على الطبيعة كي تتوضح له الصورة عمن يكون ومن أين أتى وإلى أين هو ذاهب. إننا لا يمكن إنكار طبيعتنا الإنسانية التي تدفعنا للغوص في مثل هكذا الموضوعات التي تمس بالذات الإلهية والنفس البشرية، كون أن الدافع إلى الخوض فيها موجود في قلب وأغوار الطبيعة البشرية نفسها، متمثلا في تلك الرغبة العارمة في فهم الواقع الحقيقي فهما شاملا على حد تعبير برادلي، فقد تخبطنا في الأنساق الميتافيزقية منذ أن وجدت أولى الحضارات الإنسانية على هذه الأرض، ومنذ الإرهاصات والبواكر الأولى لفجر التاريخ، إلا أن هذه الأنساق والمواضيع الميتافيزيقية كانت تتأسس على مشاعر الخوف والرهبة وتتغدى من الأسطورة والخرافة وتركب الخيال المجنح بلغة إبراهيم هيبة، مما يعني أنه تم تناول الأنساق والمواضيع الروحانية والمتعالية على الطبيعة، بطابع خرافي، أسطوري خيالي، بعيدا عن ماهو عقلي موضوعي، ولم يكن يشكل استثناءا لهذه الأنساق إلا بعض الحدوس التي نجدها هنا وهناك عند حفنة من الفلاسفة في العالم الهلليني.
وعليه وجب تأصيل وتحديد تخبطات الإنسان داخل الأنساق الميتافيزيقية، عبر العودة إلى أولى الحضارات الإنسانية، كالحضارات الشرقية القديمة (الحضارة المصرية – الحضارة الميزوبوتامية – ..) حيث أن الإنسان الشرقي كان لصيقا بالخرافة ودائما ماكان يرجع أصل كل شيئ إلى آلهة متعددة، مما يتضح على أن الحضارات الشرقية القديمة قد مارست الفكر الميتافيزيقي وتساءلت عن مختلف المواضيع الميتافيزيقية الكبيرة.
ومع مجيئ الحضارة اليونانية عرفت الميتافيزيقا نوعا من الموضوعية، وأضحت ذات قيمة كبيرة، خصوصا مع الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي خصص كتاب بأكمله يتكون من أربعة عشر مقالا يتحدث فيه عن الميتافيزيقا، رغم أنه لم يكن يحمل هذا اللفظ، بل كان يحمل لفظ “الفلسفة الأولى”، وقد اعتبر أرسطو أن الفلسفة الأولى هي علم العلل الأولى، وهي البحث في الوجود بما هو موجود.
مما لاشك فيه أن الميتافيزيقا دائما ما تثير تمثلات رافضة، بأنها شيئ مفارق للواقع، بعيدا عن الإنسان، بل وإن هناك من يجعل منها مرادفة لللاواقعي، والخرافي، أو ما لا معنى له، وقد تبنت بعض الاتجاهات الفلسفية هذه التمثلات، مثل المدرسة الوضعية المنطقية، التي شبهت قضايا الميتافيزيقا بقضايا فارغة المعنى، وبما أن الميتافيزيقا هي الفلسفة الأولى بلغة أرسطو، بمعنى أنها لصيقة بالدراسات الفلسفية، فإن تلك التمثلات والاتهامات قد طالت الفلسفة في حد ذاتها، وهذا ما يحتم علينا أن نتوجه إلى ضرورة تحديد أعمق وأدق لمفهوم الميتافيزيقا عبر التحدث عن الصعوبات التي عانت منها، وتحديدها من داخل كل مرحلة فلسفية بداية من الفلسفة اليونانية مع أرسطو ومرورا بالفلسفة الوسطية (الإسلامية – المسيحية) ثم الفلسفة الحديثة وصولا إلى الفلسفة المعاصرة، لكن هذا المقال سيركز فقط على المرحلة الحديثة بالضبط الميتافيزيقا عند ديكارت، باعتباره قد أحدث ثورة معرفية كبيرة، عبر وضعه منهج معرفي سعى للوصول إلى الحقيقة المجردة التي لا يرقى إليها الشك، وقد شكل هذا المنهج جدلا كبيرا داخل الوسط المعرفي عامة والفلسفي خاصة.
فكيف يمكن تحديد الميتافيزيقا بشكل أعمق وأدق؟
من يكون هذا الفيلسوف المسمى بديكارت وماهو منهجه؟
كيف نظر وتناول ديكارت الميتافيزيقا؟
ماهي أهم آراء ديكارت الميتافيزيقية؟
العرض:
لقد اتفق الجميع على أن الميتافيزيقا هي ما بعد أو ماوراء الطبيعة، لكن يبدوا أن هذا التحديد غير كافي لمعرفة ماهية الميتافيزيقا بمعناها الدقيق، كونها تحمل في طياتها وداخل براثنها معاني غامضة وكبيرة، وهذا ما يحتم علينا الغوص أكثر في هذا المعنى، للكشف عن المعنى الأصيل والبناء الذي يحمله هذا التعريف البسيط. على أننا لا يمكن إنكار الصعوبة التي تعتري هذا المفهوم في تحديده وتعريفه، وذلك راجع إلى عاملين رئيسيين؛ أولهما: أن الفيلسوف نفسه دائما ما تتأرجح له أفكاره بين المدح تارة والقدح أو الهجاء تارة أخرى، حيث نجد العديد من الفلاسفة والمفكرين قد دفعوا الميتافيزيقا إلى أسفل السافلين عبر رفضها وقدحها والتخلي عنها، أمثال أحد فلاسفة البرغماتية الأمريكية وليام جيمس، الذي شبه الشخص الميتافيزيقي بالأعمى الذي يبحث وسط الظلام عن قطة سوداء لا وجود لها، بمعنى أن الميتافيزيقا تعنى بما لا وجود له، ترمي بالإنسان في دوامة غامضة ومظلمة، في حين نجد فلاسفة آخرين قد دفعوا الميتافيزيقا إلى أعلى العليين عبر مدحها والرفع من قيمتها، أمثال كانط الذي يصفها بالأساس الأصيل للوجود الحق والدائم للجنس البشري، بمعنى أنها أساس الوجود الحقيقي والباحث فيها باحث عن الحقيقة الأصيلة، بينما العامل الثاني فيتمثل في المشكلة الميتافيزيقية بحد ذاتها، لأنها تبدوا بأمور تتجاوز ماهو ظاهر ومحسوس، هذا ما يجعل من الميتافيزيقا صعبة الحد والتعريف.
هكذا يمكن التعبير عن الميتافيزيقا بأنها الفلسفة والأرضية الأولى، والأساس والأصل الأول، لأنها أساس ومدخل سائر المباحث الفلسفية، وأنطولوجية لأنها تبحث في الوجود الشامل، وثيولوجيا لأن من خلال الأنطولوجية تحاول استخلاص وجود ذات إلهية، بمعنى آخر تتحدد الميتافيزيقا بكونها الأساس الأول الذي يسعى إلى بناء استخلاص حاسم لوجود ذات إلهية عبر التأمل في الموجودات، فهي علم كوني بالوجود بما هو موجود في اقتران بعلة واحدة.
إن تسمية الميتافيزيقا لا تعود إلى أرسطو، بل هي تسمية أطلقها تلميذ وشارح أرسطو، “الأندرونيقوس الرودسي” على أحد كتبه، قصد التبويب والترتيب، وذلك استنادا إلى الوظيفة التي منحها أرسطو لهذا العلم، والتي تتلخص في البحث عن الوجود من حيث هو موجود.
هكذا ظلت الميتافيزيقا أشرف وأرقى المباحث طيلة المراحل الفلسفية، حتى جاء التيار الوضعي الذي حذف هذا اللفظ من المعجم، ورفضها كما سبق الذكر، وكذلك مع التطور المهول للعلم، أضحت الميتافيزيقا تتلاشى شيئا ما، إلا أنها لم تتلاشى وظلت قائمة سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، وحاول حفنة من الفلاسفة تجديدها، واستعمالها من أجل خدمة بعض المباحث، خصوصا مع ظهور بعض المباحث الجديدة، كالابيستمولوجية، وفي نفس العصر، عصر رفض وترك والسماح في الميتافيزيقا، ظهر العديد من الفلاسفة الذين تشبتوا بها واعتبروها هي أساس كل شيئ، ولا يمكن الاستغناء عنها، شئنا أم أبينا، فنجد كانط الذي اعتبرها ملكة العلوم، عبر منهجه النقدي، حيث كان النقد الذي تمت ممارسته على المعرفة الظاهرة بوابة للدخول في عالم الميتافيزيقا، فالنقد وظيفته فحص ما يبدوا على أنه حقيقة ظاهرة بمحاولة الكشف عما وراءها وكذلك تفعل الميتافيزيقا، كذلك نجد ديكارت الذي قد وجه هو الآخر نقده لكل شيئ، لدرجة الشك في كل شيئ حتى في مبادئ العلوم والأحكام القبلية التي كانت بديهيات يقينية، وهذا الفيلسوف هو الذي سنركز عليه في مقالنا هذا..
ديكارت يعتبر من الفلاسفة الحداثيين، الذي جاء بالمنهج، وبالكوجيطو، فهو فيلسوف وعالم رياضي، ويعتبر الكثيرون أنه أب الفلسفة الحديثة، إذ تجاوزت أفكاره الأفكار السائدة في أوائل القرن السابع عشر.
وُلد رينيه ديكارت في 31 مارس عام 1596 في لاهاي في مقاطعة اللورين في فرنسا، وكان على قدرٍ كبيرٍ من الثقافة والتعليم وسعة الاطلاع. ومنذ الثامنة بدأ تحصيله العلمي في الجامعة اليسوعية، وحين أصبح في 22 نال شهادةً في القانون، إلا أنّ أحد الأساتذة ذوي النفوذ سهّل له الالتحاق بمقرٍ تعليمي لتطبيق الرياضيات والمنطق بهدف فهم عالم الطبيعة. وأدرج هذا النهج التفكر بطبيعة الوجود والمعرفة نفسها، ومن هنا كانت أكثر عباراته شهرةً “أنا أفكر، إذا أنا موجود”. وألف فيما بعد العديد من المؤلفات، أشهرها وأهمها: مؤلف “مقالات في المنهج” و مؤلف “تأملات في الفلسفة الأولى”، وهاذين المؤلفين تناولوا الميتافيزيقا عند ديكارت أو الفلسفة الأولى بلغة أرسطو، فقد شكلت الفلسفة الديكارتية منعطفا حاسما في تاريخ الفلسفة، حيث مثلت مجاوزة للميتافيزيقا الأرسطية، ومحاولة لتجديد عدة أفكارها، وتجاوز التناقضات التي وقعت فيها، مما جعل من الميتافيزيقا تصبح ذات منهج عقلي موضوعي، حيث نجد أن الميتافيزيقا الديكارتية تجد تأصيلها المنهجي في كتابه “مقالة لي المنهج”، أما منطلقاتها، أي تطبيق قواعد المنهج، فقد كان على مستوى كتابه “تأملات ميتافيزيقية” ، وما هو معلوم في هذين المؤلفين حضور الشك كمنهج، يهدف إلى تحرير العقل من الخطأ والحسم مع المعتقدات السابقة، بمعنى أن ديكارت يعتبر أن المعرفة اليقينية تتأسس على الشك الجذري يطال كل شيئ، يهدف إلى هدم كل العقائد السابقة.
إن الفلسفة عند ديكارت تبدأ بالميتافيزيقا، فقد عرف الميتافيزيقا بالشجرة، جذورها الميتافيزيقا، وجذعها العلوم الطبيعة، وأغصانها باقي العلوم، بمعنى أن الميتافيزيقا حسب تعبيره هي الجذر الأول، أو الأصل الأول للفلسفة، والميتافيزيقا عنده هي أشد العلوم يقينا وهي العلم الذي ينبغي أن نستيقن من نتائجه قبل أن نستيقن من نتائج العلوم الأخرى، بصيغة أخرى إن الميتافيزيقا الديكارتية تهتم بالذات التي تعرف والتي تقرر الوجود أكثر مما تهتم بالموضوع الذي يمكن أن يعرف أو يكون موجودا. وقد اعتبر ديكارت أن منهج الميتافيزيقا هو عين منهج الرياضيات، وأكد على أنها أكثر العلوم يقينا.
إذا كانت الميتافيزيقا القديمة الأرسطية قائمة على دراسة الوجود، الأنطولوجية والموضوع، فإن الميتافيزيقا الديكارتية أضحت تدرس الإبيستمولوجية، بمعنى أنها انتقلت من دراسة الوجود إلى دراسة المعرفة، ومن الموضوع إلى الذات، وفي هذا السياق يقول إمام عبد الفتاح إمام في كتابه “مدخل إلى الميتافيزيقا”: “إذا كان المدرسيون قد تابعوا أرسطو في تعريفه للميتافيزيقا بأنها؛ العلم بالوجود من حيث هو وجود، فإن ديكارت لا يقبل هذا التعريف، لأن المشكلة الكبرى عنده هي أن نتبين متى لنا إثبات الوجود، وبعبارة أخرى إن الميتافيزيقا الديكارتية تهتم بالذات التي تعرف وتقرر الوجود، أكثر مما تهتم بالموضوع الذي يمكن أن يعرف أو أن يكون موجوداً..”.
تسير الميتافيزيقا الديكارتية عبر عدة خطوات، أهمها خطوة الشك، وهي الخطوة الأولى والأساسية للتأمل الميتافيزيقي فإذا أدى بنا إلى المبادئ الأولى، وصلنا إلى اليقين الفلسفي، وفي هذا السياق يقول ديكارت “ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة، وكنت أحسبها صحيحة، وإن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ، هذه حالها من الزعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلا شيئا مشكوكا فيه جدا ولا يقين فيه أبدا..”،
بمعنى آخر إن ديكارت قد استدل بثلاثة أدلة برهانية عقلية لإثبات وجود الكائن الكامل، الدليل الأول يتحدد في قاعدة الشك الذي ينطلق منه لبلوغ اليقين، أما الدليل الثاني فهو مستمد من الدليل الأول، ويتحدد في فكرة الكمال، لأن ديكارت ليس علة لنفسه، فهو كائن ناقص لا يمكن أن يكون خالق نفسه، وفي هذا السياق يقول ديكارت: “لو كنت خالقا لنفسي، لما شككت في أمر، أو رغبت في أمر، ولا افتقرت إلى أي من الكمالات، ذلك لأنني سأمنح نفسي حينئذ كل الكمالات..”. بينما الدليل الثالث فهو مستوحى من الهندسة، ويعد من أقوى هذه البراهين وأدقها، حاول ديكارت في هذا الدليل أن ينتقل من الفكر إلى الوجود، أي أنه استخلص وجود الكائن الكامل إنطلاقا من فكرة الكائن الكامل ذاته.
خاتمة :
هكذا يمكن أن نخلص انطلاقا من الرحلة التي مررنا بها بخصوص تأصيل الميتافيزيقا وتحديدها عند ديكارت، أن الميتافيزيقا الدبكارتية شكلت ثورة جذرية في مضمار النظر الميتافيزيقي، حيث استطاع ديكارت التخلص من الإطار الأرسطي المتداول للميتافيزيقا، مما جعل الفيلسوف هيغل يطلق عليه “بطل الأزمنة الحديثة”، وقد تمثلت هذه الجرأة الديكارتية في جعل الشك أساسا لكل ميتافيزيقا ممكنة، وعلى هذا يظهر أن ديكارت قد اعتمد على العقل، وغيب الحواس، وهذا ما شكل نوعا من النقص في ميتافيزيقا ديكارت، فظهر بعده فلاسفة النقد حاولوا التوفيق بين ما هو عقلي وإحساسي عن طريق الإيمان، ولعل الفيلسوف الذي نجح في ذلك هو كانط.
حمزة كدة / طالب باحث بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط تخصص الفلسفة
مقالات أخرى ذات صلة