الموت يقدم استقالته – علي عبد القادر
الموت يقدم استقالته
حككت شواة رأسي بعدما كرمشت الورقة ورميتها إلى زاوية الغرفة. كنت أحاول استجماع الكلمات لكتابة (سكريبت) لعمل فيديو عن رواية سارماغو التي كنت قد انتهيت منها وقتذاك، إلا أنني شعرت بالإحباط لهروب الكلمات مني، وفكرة التحدث للكاميرا بشكل عشوائي ستستغرق الكثير من الوقت، ومن المعروف أننا يوميًا نواجه تدفقًا مفزعًا من المعلومات ونلهث كل يوم خلف (تريند) جديد فبالتالي المشاهد لن يستطيع معي صبرًا، لذا يكون هذا المقال.
في مديح الموت
في رواية(انقطاعات الموت) يقدم الكاتب البرتغالي جوزيه سارماغو إعادة صياغة لحلم بشري ضارب في القدم: الخلود. وأظن ذلك الحلم بدأ مع دهشة الإنسان الأول حينما اكتشف الموت، تلك الظاهرة العصية وقتذاك على التفسير: “لماذا نموت.. هل من الممكن ألا نموت!”
البشر على اختلاف معتقداتهم وعصبياتهم يتفقون حول حول حقيقة واحدة: الموت. فمهما كانت رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين وللعالم فإننا كلنا نتفق على زيارة الموت لنا. ذلك الفارس المدثر في الظلمة، تارة يأتي بمنجل وتارة يقبض بيده الفولاذية ويخترق الصدور، إلا أنه في النهاية سيصحبنا في نزهة إلى المجهول.
وقد قام الإنسان بصياغة هذا الحلم في الأشكال الأدبية من (محلمة جلجامش) والبحث عن الخلود إلى (رسالة الغفران) و(الكوميديا الإلهية) ومحاولة تصور ماذا يكون ذلك الشيء الذي يصحبنا إليه الموت؟
“في اليوم التالي لم يمت أحد. ولأن الحدث مخالف بالمطلق لأعراف الحياة، فقد أحدث ارتباكًا هائلًا في النفوس…”
يفتتح سارماغو –على طريقة كافكا – روايته بهذه الرصاصات، ليضعنا في قلب الحدث الغرائبي، وإن توقفت عند نهاية أول فقرة التي تنتهي بعد صفحة ونصف:
” وها قد صرنا في اليوم التالي، وفيه، لم يكن منذ بدايته خبر سوى هذه القصة، لا أحد يموت”.
ستسأل نفسك هذا السؤال المحرم: ماذا لو أصبحنا أنصاف آلهة.. خالدين.. ماذا سيحدث إن اختفى الموت؟!
على الرغم من البريق المغلف للتصور إلا أن ذلك سيصنع مجموعة من الأزمات والتناقضات، وأول من سيواجه هذه الأزمات هو الدين. فالدين إن رغبنا بتعريفه:
نسق من التفسيرات المكانية والسببية والكيفيات يتخذ شكلًا أدبيًا، يجيب عن ثلاثة أسئلة رئيسية:
- من أين وكيف جئنا لهذا العالم؟
- لماذا جئنا وكيف نعيش؟
- إلى أين سنذهب وماذا سيحدث لنا بعد الموت؟
ورؤيتنا للدين من هذه الزاوية يفسر الصدام الذي يحدث بين العلوم وبين الدين في محاولة كل منهما إعطاء إجابات ربما تكون متعارضة لاختلاف المناهج، كذلك تفسير محاولاتنا التوفيق بين العقل والنقل/ العلم والدين من العصر الوسيط حتى الآن.
الدين يقوم عموده الفقري على الموت، وبشكل أدق تفسير وتفصيل النزهة التي سيصحبنا إليها الموت. والحق إنها فكرة مفزعة ألا توجد حكاية تروى عن تلك النزهة/تفسير لما بعد تلك اللحظة التي سنفارق فيها. وبناءًا على هذا التفسير يقوم النظام الأخلاقي الذي يُسَيِّر حياتنا. وهنا أحب العودة للتقسيم الرشدي في كتاب (فصل المقال)، والذي يقسم فيه ابن رشد الناس حسب طباعهم وملكاتهم في فهم التصورات الدينية إلى ثلاث مراتب: الخطابيون، أهل الجدل، أهل البرهان.(1)
والخطابيون –حسبما أراهم وفيه اختلاف بسيط عن التصور الرشدي– هم العوام من الناس، المتعلمون والأميون، تلك الفئة الراضخة لتحقيق متطلبات الحياة اليومية ولا تضع/ تستطيع توفير وقتًا للدراسة الأكاديمية أوالتأمل العقلي المقارن، لذا تأخذ تلك الفئة فهمها للدين من الوعاظ في المقام الأول(دعاة الفضائيات ودعاة التواصل الاجتماعي “الكيوت” هذه الأيام) ومن بعدهم ربما الفقهاء والمتكلمون(علماء العقيدة). تلك الفئة وهي السواد الأعظم ونستطيع أن نضيف لها قطاع كبير من الفقهاء/علماء اللاهوت/المتكلمين، يقوم إيمانهم على الخوف من عذاب الرب الإله، ولولا ذلك الجحيم المتوعد والعذاب الأبدي لكل خارج عن الدين، لما قام معظم الناس بتأدية الشعائر أو الإلتزام بأي معيار أخلاقي يقره الدين. وهنا يجب أن أوضح كي لا أرجم كما الزناة بتهمة مهاجمة الدين، خطاب الترهيب خطاب لا بد منه في مرحلة ما ولفئة معينة لن تفهم غير ذلك الخطاب القائم على الوعيد من النار والترغيب في الجنة بملاذاتها.
اختفاء الموت يعني عدم وجود أي دافع للالتزام بالمعايير الأخلاقية، خاصة في “بلاد العدالة المؤجلة” التي تعاني من اختلال منظومة القوانين وميزان العدالة والتي تسود فيها فكرة أن “هناك من سيقوم بالقصاص لنا في الدار الآخرة حيث لن توجد أبدًا عدالة ها هنا”. سيجد رجال الدين أنفسهم أمام معضلة كبرى تهدم سلطتهم، فسيف التوعد بالجحيم لكل مخالف لما اتفقوا عليه لن يكون، هذا ما عبر عنه سراماغو على لسان رجل دين يتحدث مع رئيس الوزراء:
“من دون الموت لا وجود للانبعاث، ومن دون الانبعاث لا وجود للكنيسة…”
تلك الأزمة ينتج عنها نوع من الفوضى في “بلاد العدالة المؤجلة” وربما غيرها أيضًا. والحل الذي طرحه سراماغو بخبث كي يخرج رجال الدين من المأزق هو تأويلهم للظاهرة وتأكيدهم أن ما يحدث نوع من الابتلاء للبشرية.
ملاحظة: ذلك التأويل يضعنا أمام تناقض آخر، ففي الرواية التوراتية، الموت كان العقاب الذي ناله آدم وزوجته بعدما أكلا من شجرة المعرفة، فكيف كان الموت في البدء عقاب وعند رفعه يكون ابتلاء!(2)
الحكومة في غرفة الإنعاش
في ظل انعدام الموت ستواجه الحكومات أسوأ أشباحها، أما الأشباح التي عرضها سراماغو في روايته هي أشباح أوروبية غضة: كقلق الحكومة من التضخم المتزايد للكتلة الغير العاملة والتي تُدين الحكومة بأموال المعاش والرعاية الصحية.
أما ما لم يعرضه سراماغو ما قد تواجهه حكومات الاستبداد كحكومة (كوريا الشمالية) على سبيل المثال، أو قوات الاحتلال الإسرائيلي، ففي ظل انعدام الموت يصبح كل شيء ممكن، يصبح كل شيء مباح.
إلا أن ذلك لا يعني أننا ككائن بشري قد ننقرض، ربما نواجه مجموعة من الأزمات في ظل غياب أسوأ مخاوفنا، غير أننا وحسب رؤية (توماس هوبز) للعقد الاجتماعي، فالكائنات البشرية أوجدت القوانين وأشكال السلطة والتنظيم لا لرقيها ولحب الإنسان الفطري للعدالة، إنما نتيجة خوف الأفراد من بعضهم البعض.(3) ففي ظل وجود هذا الخوف سيتواضع البشر على إقامة منظومة أخلاقية أخرى، لن تقوم هذه المرة على الخوف من الفناء، إنما يقوم عمادها على الخوف من الألم.
الألم يترك دكة الإحتياط وينزل كرأس حربة
لقد كانت الفرضية غياب الموت، استمرارنا التقدم في العمر، لكن غياب الموت لا يعني إعلان الألم عن رحيله هو الآخر.
وقد أشار سراماغو لذلك عرضًا في مفتتح روايته:
” كان رجال المطافيء يسيطرون بمشقة على غثيانهم وهم يخرجون من بين الحطام أجسادًا بشرية بائسة ممزقة لا بد لها، وفق المنطق الرياضي للتصادمات، أن تكون ميتة، بل مشبعة بالموت، لكنها على الرغم من خطورة الجراح والكدمات المصابة بها، تظل حية عند نقلها وهي على تلك الحال للمستشفيات…”
بالتالي فإن أسوأ أشكال العقاب لن يكون الحد من الحرية أو حرماننا من الحياة، إنما التعذيب، والذي سنتقبله كوسيلة لإلجام بطشنا تجاه بعضنا البعض. وتاريخ الإنسان حافل بتفننه في ابتكار أدوات للتعذيب قدر الإمكان وإبطاء الموت، فكيف الحال وإن أصبح العذاب أبديًا بلا موت!
في الرواية سراماغو جعل الأحداث تقع في دولة واحدة -أوروبية بالطبع- ولفترة قصيرة، إلا أننا لو عممنا انقطاع الموت البشري عن الأرض كلها، وبعد توصلنا لنظم أخلاقية جديدة ووصولنا لنوع من الاستقرار النسبي فإن أزمة أخرى لن تظل حتى تنفجر في وجهنا، وهي الانفجار السكاني.
الأرض تعلن إفلاسها
نحن كجماعة شئنا أم أبينا نعيش على مساحة محدودة الموارد، وما سيكون هو تنامي لا محدود لنا، في ظل غياب الموت سيظل الجدود يحتفظون بثرواتهم ويظل الأبناء بانتظار موت الآباء ويتزايد الأحفاد. ربما حينما ينعدم الموت وتتزايد الأعداد نلجأ إلى تقليل الطعام ومن بعد إلى التجويع فالموارد لن تكفي ويستثنى من ذلك رجال السلطة بكافة أشكالها. وسياسة التجويع هذه ستؤدي إلى خلق جيوش من الهياكل البشرية الغير قادرة على العمل والانتاج!
مشكلة أخيرة
من اليوم الأول لانقطاع الموت عن حصد الرقاب، سيتم التركيز على حقيقة أخرى: إن كنا خالدين فإن لهذا الكوكب عمر، في وقت ما ستعلن الشمس عن شيخوختها وتلفظ ذراتها الأخيرة لتتحول إلى ثقب أسود يبتلع كل شيء. لذا سيتنامى البحث عن كوكب آخر يصلح للحياة، وبالطبع في حالة التوصل لذلك الكوكب فإننا هنا في دول العالم الثالث لن نذهب، بل إننا سنظل مخلصين لأرضنا العجوز، بينما سيكمل تاريخ البشرية مواطنو العالم الأول ورجال الحزب الشيوعي في الصين وكوريا الشمالية.
لقد حاولت طرح بعض الخيالات التي لم يقم سراماغو بإضافتها للوحته، إلا أن تلك اللوحة تعطينا ما يكفي من العصف الذهني، بالطبع انعدام الموت شيء مستحيل حتى الآن، ربما يمكننا إطالة أعمارنا قدر الإمكان بتطوير التقنية، وإن كان لأزمة الكورونا مؤخرًا رأي آخر حول مدى جدوى التقنية التي وصلنا لها. إلا أن طرح السؤال عن غياب الموت يؤدي بنا إلى نوع من الدهشة السابقة لفعل التفلسلف ورؤية النظم الأخلاقية والاجتماعية السلطوية التي نخضع لها، ربما تنكشف عورات بعض تلك النظم لنا، وتنكشف عوراتنا نحن، وربما لن نستطيع سد كل ثقوب السفينة، إلا أن انتباهنا لها مفيد لتوسعة الأفق، وتلك هي وظيفة الفنون والأدب وما تحمله من خيال.
المصادر:
- ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة التراث الحضاري12، ط1، القاهرة2018، ص59
- سفر التكوين، الأصحاح الثاني، 18
- توماس هوبز: اللفياثان، دار الفارابي، لبنان 2011، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، الفصول: 13،14،15