العقلانية العلمية بين التساوق الذاتي والمعايير الموضوعية د. زهير الخويلدي

العقلانية العلمية بين التساوق الذاتي والمعايير الموضوعية

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

استهلال:

” العقل هو مكلة خاصة بالإنسان ، والتي من خلالها يمكن أن يعرف ، ويحكم ويتصرف وفقا للمبادئ: يعتبر العقل معاكسا للغريزة”[1]

ما أحوجنا إلى العلماء والأطباء زمن انتشار الأوبئة واشتداد الأزمة الصحية وما أعظم انتصار العلم على الأمراض والمشاكل البيئية عن طريق الاختراع الصيدلي والابتكار التقني والإبداع العلاجي في المخابر.

على هذا الأساس يتجه الدرس الفلسفي إلى الإحاطة بالنظريات العلمية وتراوحها بين الذاتية والموضوعية ويدور الفلك حول العقلانية العلمية في رحلته نحو التغلب على الكوارث والتحديات التي تواجهها البشرية.

يختلف استعمال العقل من طرف الفلاسفة عن استخدام اليومي من قبل الإنسان العامي وعن العقل في الاستعمالات السفسطائية والكلامية ويثير هذا الاختلاف مشكلة فلسفية بخصوص طبيعة العقل ووظيفيته ومنهجه تجعله في علاقة تنازع مستمرة مع الأخطاء التي يقع فيها عند الحكم المعرفي على حقيقة الأشياء والأوهام التي ينتجها من ذاته ولا يقدر على تفاديها ويستمر في تصديقها وتقبلها بصورة لاواعية وبديهية .

فما المقصود بالعقل؟ وهل يعتمد على منهج واحد أثناء التكيف مع الطبيعة ومعرفة العالم؟ وماهي أهدافه؟ وهل العقل أداة للمعرفة أم موضوع لها؟ ولماذا يتم التعويل عليه دوما في كل من المعرفة والوجود والقيم؟ وماذا عن البنية المنطقية للعقل؟ وبماذا يختلف عن الرأي الصواب والذكاء المعرفي والفكر الاستدلالي؟ وبأي معنى يعقل العقل ذاته؟ هل يتم له ذلك بادراك العالم وقوانين الوجود أم بالاتفاق مع قوانينه الكلية؟ ماهي الشروط المستوفاة لكي يتطابق العقل مع مبادئه الذاتية؟ وكيف يتكيف مع المعايير الموضوعية؟

ما نراهن عليه هو التمييز بين العقل بوصفه موضوع للمعرفة يعقل ذاته والعقل من حيث هو وظيفة عقلية يتمكن من خلاله الإنسان من معرفة العالم وتفسير الطبيعة والتشريع لنظام الحقيقة ونسق القيم الوجودية.

ما الدلالة الفلسفية لكلمة العقل؟

 العقل موضوع للمعرفة:

منذ أقدم العصور تراوح جهد الفلاسفة بين استخدام العقل كأداة للمعرفة من جهة وبين التفكير في هذه الأداة ومحاولة صقل السلاح والنظر إليه كموضوع للمعرفة وذلك بالخوض في مبادئه وقواعده وطبيعته.

إن معرفة أسباب الظواهر وشروط استقامة الأفعال وتصور مبادئ وجود الأشياء يقتضي معرفة وتصور الأسس والعناصر الأولية التي تسمح بتفسير هذه الظواهر وعقلنة الأفعال وفهم المبادئ التي تحدد الأشياء.

بهذا المعنى يشير العقل إلى تنظيم المعطيات بإدخالها ضمن نسق عقلي ومنحها درجة معينة في النظام الكلي للعالم والتعويل في هذا المجال على العلم الرياضي الذي يقوم بتقسيمها ويمنحها الترتيب والنمو.

العقل وظيفة ذهنية:

لقد غير ديكارت وظيفة العقل في المقال عن المنهج حينما اعتبره أعدل الأشياء قسمة توزيعا بين الناس وأسند له القدرة على الحكم والتمييز بين الصواب والغلط ولما عرفه في القواعد بأنه الحدس المباشر للصواب بالبداهة التي تسمح لنا من قيادة أفكارنا وفق ترتيب وذلك بالانطلاق من المواضيع البسيطة التي يمكن معرفتها وعندما طالب تلميذه مالبرانش في أطروحة عن الأخلاق بأن يحب المرء العقل اذا ما أراد أن يكتسب فضلية النظام ويبلغ مقام الاكتمال ، في حين أشار بوسويه بالعقل الى الوعي أو الضمير الذي يمنع المرء من ارتكاب الإثم ولاحظ وجود صلة تناسبية بين العقل والنظام في المجال الفني وعالم الجمال.

أما كانط فإنه حول العقل من موضوع للمعرفة إلى ذات عارفة ونقده بطريقة منهجية وفي مختلف تجلياته واعتبره ملكة مبادئ تسمح ببلورة المعرفة وتتدخل في عملية تنظيم المعطيات المحضة للحدوسات الحسية وساهم بالتالي في إعادة تعريفه بصورة أتاحت استعماله على نطاق واسع والنظر إليه على أنه “مجموع المبادئ القبلية والكونية والضرورية” ، ولقد أضاف البعض إلى هذا التعريف وظائف أخرى على غرار المعرفة الحدسية بالمطلق في حد ذاته وربطوه بالله على مستوى تدبير العالم بالنظر والإدراك التام للكون. فكيف يتراوح العقل بين الذاتي والموضوعي وبين الاستعمال الشخصي والمعيار الكوني؟

خاتمة:

” العقل هو مجموعة من المبادئ وطرق التفكير التي تسمح بالتصرف بشكل جيد والحكم بشكل جيد: قرار وفقًا للعقل.”2[2]

في نهاية المطاف صار العقل مطلبا محايثا للفكر والحجة التي يتم اعتمادها عند التنازع بين الآراء وتعادل الحجج بين المتخاصمين ويعني ملكة التفكير والتعقل والاستدلال ويقوم بمهمة النشاط التنظيمي للمعرفة.

لا معنى للعالم دون العقل الإنساني ولا قيمة للعقل دون الوجود في العالم ولا يمكن للعقل أن يعقل ذاته دون أن يعقل العالم الخارجي ويتكيف مع عناصر الطبيعة ولا يجوز للعقل عقل العالم الخارجي دون عقل ذاته.

فإذا كان العقل في معناه الذاتي يشير إلى ملكة المعرفة والحكم الجيد والتمييز بين الصواب والخطأ أو بين الخير والشر فإن معناه الموضوعي يفيد العنصر المفترض أن يمثل السبب أو الباعث على أشياء معينة. في نهاية المطاف يزداد الإقبال على العقلانية العلمية زمن الأزمات ويتضاعف الاهتمام بمحاولات العلماء والأطباء للتغلب على المشاكل والأمراض وترتفع أسهم النظريات العلمية والمقاربات التقنية في وقت الكوارث طالما ظلت البشرية تلاحق العلاج والسلامة والصحة. لكن ماهي المبادئ العقلية التي يجب أن يسير وفقها الإنسان في حياتها؟ وما مصدرها وقيمتها وحدودها؟

المصدر:

[1] Dictionnaire Larousse, la raison, lien: https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/raison/66270

[2] Dictionnaire Larousse, la raison, Lien : https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/raison/66270

إغلاق