التفكير النقدي في العقلانية العلمية المعاصرة – د. زهير الخويلدي

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

نحتاج إلى التمييز بين القوانين العلمية وبين التعميمات العرضية البسيطة ومشكلة تحفيز التنبؤات للحالات غير الملاحظة أو إدراكها وتوقعها.” – نيلسون غودمان

تبدو العقلانية المعاصرة محاصرة من عدة أسوار دوغمائية ومجموعة من الممارسات النظرية المبتسرة ويهددها الإفراط في الاعتقاد في وجودها ويفتك منها السجال والتناطح والانتقاد أسلحتها الثورية في النقد.
إذا كان الاعتقاد يقطن في المساحة التي ينشط ضمنها الظن والرأي بصورة ضعيفة وباهتة ويظل في حاجة إلى دليل من أجل إثبات وجاهة نظره وصدق دعواه فإن النقد يطرح كأمر حيوي ومطلب ضروري عند الشدائد والأزمات من أجل التشخيص العلل والوقوف عند الأمراض وتحديد الأسباب ومسح الآفات وامتحان القدرات والتثبت في المبادئ واختبار الأسس وإصدار أحكام رافضة للأخطاء ومثبتة للحقائق. على هذا الأساس تدور الفلسفة المعاصرة ضمن المنظور التاريخي حول مدار المراجعات الجذرية وتقوم بالتساؤل عن الجذور وتقوض طبقات الميراث التفسيري للطبيعة وتشتغل على نقد العقل والمثالية والثقافة وتتفقد الذات بعد تخليها عن التصور الحديث الذي يزعم التقدم والتحرر ودخولها إلى وضع مابعد حديث يتصف بتحولات في قيمة الحقيقة واستبدال تام لتقنيات تأويل النصوص والميتافيزيقا التأملية بمعقوليات ملائمة للفعالية العلمية والفيض المعرفي والثورة الرقمية والاختراعات الكبرى التي تمت في حقول معقدة.
لقد مضت العقلانية المعاصرة نحو محيطات غير مستكشفة ولم تقتصر على نقد العقل في جوانبه النظرية والعملية والذوقية ولا نقد اللغة والمجتمع والدين والاقتصاد والايديولوجيا في أبعادها القيمية وبعض بنياتها العميقة بل رصدت دلالات الثورات العلمية ورمزية استعادة المكبوت والاحتفال بالهامش وحاولت نطقالمسكوت عنه والتعبير عن اللاّمرئي وهيكلة الذات بشكل سردي والخروج من عالم قديم نحو عالم مغاير.
لقد أقلعت الفلسفة في الحقبة الراهنة عن تجميع المعارف ضمن رؤية موسوعية وعن بناء تصور نسقي للعلم بعدما استفادت من الدرس الكبير الذي قدمته لها العلوم وتفضيلها التخصص والحرفية على الشمولية. لقد تخلصت من وهم التأسيس الأنطولوجي وأسطورة النقاء المفهومي والفكرة الشاملة والحقيقة المطلقة واكتفت بالمتابعة الساخرة للأحداث والحكي المجازي للتجارب والمرافقة الضدية للأدب والعلوم والدين. لقد قامت العقلانية العلمية في القرن العشرين بمراجعة نظرية جادة للمعارف العلمية وشيدت عقلانية تطبيقية مفتوحة تؤمن بالجدل بين العقل والتجربة وبين النظرية والممارسة و بالدحضانية والتطورية.
في البداية شهد النصف الأول من القرن العشرون عدة انقلابات في الكثير من العلوم الأساسية وخاصة الفيزياء والبيولوجيا والمنطق والرياضيات بينما خضعت الابستيمولوجيا في النصف الثاني للتعديل وتضاعفت خصوبتها وأصبحت أكثر تاريخية وواصلت عملية النقد الذي قامت به الوضعية المنطقية الجديدة للميتافيزيقا ولم تعد الفلسفة تؤسس العلم بل أصبح العلم هو الذي يخلق الفلسفة كما يرى باشلار.
لقد أعاد ماندل اكتشاف أهمية البيولوجيا وطرح توماس مورغان أسس علم الوراثة بوضعه نظرية الجينات بينما أوضح واطسن وكريك بنية الحمض النووي وتشكل ابستيمولوجيا الظواهر الحية على أساس الانكسارات المتواصلة التي تحدثها نظرية التطور وليس على أساس الثبات على الأنواع. أما في الفيزياء فإن الغزو الكبير هو الذي قام به آينشتاين عبر توقيع نظرية النسبية وظهور التموجية في الميكرو فيزياء مع شرودنجر ولوي دي بروي واكتشاف ماكس بلانك نظرية الكونطية للمادة وملاحظة هيزنبرغ لوجود علاقات ارتياب في حركة الالكترون حول نواة الذرة وقوله بمبدأ اللاتعين واللاحتمية وأيضا المحاولة التي بذلها نايل من اجل فهم تغير الواقعة وتبعثرت جهود نيوتن حول استمرار الواقعة المادية. لقد بدأ الحديث عن رؤية علمية للكون من طرف مدرسة فيانا والبناء المنطقي للعالم وولدت الوضعية من التحليل المنطقي للّغة العلوم واستندت المعرفة برمتها على التجريبية وعلى الذرية وعلى التثبت والتأييد واتجهت نحو توضيح المشاكل والعبارات والبحث عن معايير للتمييز بين القضايا التجريبية والعبارات الخيالية وبين المعرفة والخطأ وبين المشاكل الحقيقية والمشاكل الزائفة وبين اللغة الطبيعية والكلام العادي. لقد ترتب عن تجديد الفكر الوضعي من طرف حلقة فيانا نفي الميتافيزيقا وتجاوز اللاّهوت واعتبار معظم القضايا الماورائية فارغة من المعنى ومشكلات زائفة يمكن التخلي عنها تماما واستبدالها بقضايا علمية وتم توسيع دوائر العلم والتخلي عن مصطلح فلسفة أو على الأقل يكتفى بربطه بالعلم ويصير فلسفة علمية.
لقد كان نقد الوضعية المنطقية الجديدة جذريا وشمل عدة اعتبارات منطقية وإجراءات لغوية وتم التعامل مع الظواهر التي لا يمكن ملاحظتها على أنها اعتبارات غير واقعية وأن المحاولات الميتافيزيقية في فهم العالم ليست سوى قصائد شعرية رديئة وعبارات مقتضبة وغامضة أدت إلى إنتاج مشاكل زائفة وتافهة. إذا كان كارناب قد وقع في النزعة الاختزالية عندما افترض وجود قضايا أساسية تتطابق مع الواقع التجريبي فإن كواين رفض ذلك وكشف عن وقوع التجريبية في دوغمائيتين ودافع على الطابع الشامل للمعرفة وسانده بيير دوهام حول الطابع الشمولي نظريته العلمية وتشكل قانون دوهام – كواين حول تعذر التحقق بالتجربة من قضية واحدة وإمكانية التثبت من صدق مجموعة من الفرضيات بشكل استنتاجي. على اثر ذلك قام كارل بوبر بنقد الاستقراء الذي يمثل المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه النزعة التجريبية وظل المنهج العلمي الذي يضمن الوقاية من التوكيدات الزائغة والتأملات الفارغة وبين أن المغالطة التي يقع فيها الاستقراء هو زعمه القدرة على إثبات شرعية قانون كلي بالانطلاق من ملاحظة تجريبية لعدد كبير من الحالات الخاصة وادعائه متانة الاستدلال بالمرور من عبارات جزئية إلى عبارات كلية مثل الفرضيات والنظريات بالأخذ بعين الاعتبار بالتجربة بينما الاستدلال هو لحظة تفكير وعملية منطقية تتمثل في استنتاج قضية من قضية سابقة ويمكن أن يكون استدلالا غير مشروع ويقبل إمكانية التبكيت. هكذا يصبح الاستقراء عند بوبر في منطق الكشف العلمي تعميما تجريبيا لنطاق مختزل ولم يتم تأسيسه منطقيا بالشكل اللازم وإنما هو مجرد استدلال بواسطة العقل، بينما لا يمكن تأسيس العلم على التفكير الاستقرائي لأن هذا الأخير يدور في حلقة مفرغة ويقع دائما في نوع من الدور المنطقي ويصادر على المطلوب وكذلك لا يمتلك قيمة إلا عندما نعتمده كمبدأ عام لضبط وتنظيم الظواهر الطبيعية، ولا يمكن أن نقر بصلاحية مبدأ معين عن طريق الاستقرار بل يجب التسليم بذلك قبليا أي دون العودة للتجربة والقول بأن النشاط العلمي يشتغل ويحرز تقدما حينما ينطلق من فرضيات واستدلالات وليس عبر الاستقراء.هذا التشكيك في القيمة للاستقراء واصله نيلسون غودمان 1908-1998 فيكتابه “وقائع وتخيلات وتخمينات”حيث صاغ اللغز الجديد للاستقراء بالتساؤل عن تعريفه والطريقة التي يتم فيها تبريرهذا التعريف على النحو التالي: كيف يتم الاستقراء؟ ولماذا نختار إجراء استقراء لخصائص دون أخرى؟
تقوم مفارقة غودمان على الربط بين نظرية الاستقراء والملاحظة التي تجريها على الظواهر واللغة التي تعبر بها عن هذه العملية التجريبية مستعملة الدلالة والإحالة والتضمين ولكنها تصطدم بصعوبة استقراء كل شيء وبالتالي فإن المقولات التي تساعدنا على بلورة الاستقراء لا تتطابق قبليا مع العناصر الواقعية بل تصدر من العالم الثقافي الذي نعيش فيه وتعتقد بشكل ضمني أنها تلعب وظيفة أساسية أثناء الاستقراء. لقد نقد غودمان الصورية المنطقية التي وقعت فيها حلقة فيانا ورسم حدودا للتصور التجريبي والمنهج الاستقرائي الصارم للعلم الذي أوجدته وأعاد الاعتبار إلى التفكير الفلسفي ومشروعية وجوده في العلم وبين أن النشاط العلمي هو فعالية معقدة ومتشابكة أكثر مما كان يتصور الوضعيون الجدد والمنطقيون. لكن يساعد نقد العقلانية العلمية على توظيف التخييل في إنقاذ الظواهر وبلورة توقعاتواستشراف الآتي؟
المصدر:
1-Nelson Goodman, Essai et Philosophie,Faits, fictions, et prédictions, 1955,traduit par Yvon Gauthier, les éditions de Minuit, Paris, 1985.

 

اقرأ أيضا: 

إغلاق